سـيدي.. كنت طالبة متفوقة في الثانوية العامة, وحصلت علي مجموع كبير أهلني للالتحاق بإحدي كليات القمة. وكان هناك زميل في نفس المدرسة الاعدادية والثانوية دائما مايحصل علي المركز الأول, وكان هناك نوع من التنافس الشريف بيننا, كان مرحا ونشيطا وذكيا. وقد أعجبت به كثيرا آنذاك, ورأيت منه نفس الإعجاب والاحترام. ولكننا كنا نعيش في احدي القري والتي لاتسمح بمثل هذا الاعجاب بين شاب وفتاة, وحافظ كل منا علي سره دون البوح به للآخر.
وكان يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة ولم تكن النتيجة مفاجأة لأحد, فقد كان الأول كما تعودنا منه بمجموع كبير أهله للالتحاق بإحدي كليات القمة, كما نطلق عليها, والتحقت أنا أيضا بنفس الكلية ولكن في تخصص آخر. وفي يوم تقديم الأوراق إلي مكتب التنسيق بعاصمة المحافظة التي كنا نعيش فيها التقينا معا وجاء وسلم علي بأدب وهنأني بحصولي علي مجموع كبير. وهنأته أنا أيضا, وشارك كل منا الآخر في كتابة الرغبات. وركبنا سيارة الأجرة التي تقلنا إلي قريتنا, وأثناء الطريق أخبرني علي استحياء أنه يكن لي مشاعر الود والاحترام فأخبرته أن ذلك قد يسبب لي وله مشاكل كبيرة, ولكنه قال إنه أراد فقط أن أعلم ذلك, وكدت أقول له إنني أيضا أبادله نفس الشعور, لكنني خجلت وسكت, وأنا أدرك أنه يفهم ما أشعر به.
ومرت الأيام وانخرط كل منا في دراسته في كليته, وكان كل منا يسافر يوم السبت في الصباح إلي الجامعة ونعود يوم الخميس, وكنا أحيانا ما نلتقي بالمصادفة أثناء ذهابنا للجامعة أو عودتنا منها, ويعلم الله أننا لم نرتب أي موعد للقاء. وشعرت بحبه الشديد لي, وكنت أخشي عليه من هذا الحب والتعلق بي, فأنا أعلم أن أسرتي لن ترضي إن تزوجني بشاب في مقتبل حياته, فهم لاينظرون للعريس إلا من زاوية القدرة المادية والمستوي الاجتماعي وهو من أسرة متوسطة الحال مثل أسرتي وليس جاهزا ولامبسوطا كما يحلو لأسرتي أن تصف من يتقدم لبنت من بناتها. ولكنني وجدت نفسي رغما عني أبادله نفس الشعور العفيف, وفي احدي المرات تجرأت وطلبت منه أن يبتعد عني, لأنني لن أكون له ولكنني أثناء ذلك بكيت فما زاده ذلك إلا تعلقا بي وأخبرني أنه سيحاول, وأن الله لن يخيب رجاوه فهو لايقصد إلا الخير, وأنه سوف يجتهد في دراسته أكثر وأكثر حتي يرضي عنه أهلي.وأقسم لي بالله أن يحقق لي كل مايريده أهلي وأكثر وأنه سوف يتفوق أكثر وأكثر من أجلي, وبالفعل فقد كان الأول علي دفعته باستمرار في الكلية التي يدرس بها. وكلما اقترب موعد تخرجنا شعرت بالخوف من ذلك اليوم.
وجاء اليوم الذي كنت أخشاه فقد تخرجت وهو أيضا, وبعد النتيجة ببضعة أيام ذهبت لاستخراج شهادة من الكلية وتقابلنا بالمصادفة وأخبرني أنه كان الأول علي دفعته وأنه من المتوقع أن يعين معيدا بالكلية, وعدنا إلي قريتنا وكل منا تغمره السعادة وهو يري حلمه قد أوشك علي التحقق, ودعوت الله أن يرق قلب أهلي لي وله ويباركون زواجنا. وبعد شهر تقدم عريس يكبرني بثمانية عشر عاما ووافق أهلي عليه حتي دون مشورتي. وعلم هذا الشاب بما حدث فما كان منه إلا أن أرسل والده لأسرتي وحاول والده كثيرا مع والدي ولكن والدي رفض وقارن بين العريس الذي تقدم لي ويملك شقة من غرفتين بأحد الأحياء الشعبية في القاهرة, وبين هذا الشاب الذي تخرج حديثا ولايملك شيئا في الوقت الحالي. وعاد الشاب وتحدث مع والدي وأخبره أنه سوف يفعل كل مايريده حتي لو اضطر لبيع جزء من جسده, ولكن والدي ثار في وجهه وأخبره أن أمامه عشرين عاما حتي يكون نفسه مثل هذا العريس وأنه لا حاجة له بجزء من جسمه ولاجسم غيره.
وتحدثت مع أمي وأخوتي لكنهم أصروا علي أن هذا العريس لديه شقة وسوف أغادر القرية لأهنأ بالعيش في أم الدنيا وأبتعد عن عيشة الفلاحين والفقر, وأنه لاداعي لاختيار هذا الشاب الذي مازال في بداية حياته وأهله فقراء وأمامه مشوار طويل, خاصة أن العريس المتقدم لن يكلفهم قليلا ولاكثيرا. ورفض الجميع سماعي وحاول الشاب مرة أخري ومرات, ولكي ينهي والدي هذا الموضوع زوجني في خلال خمسة أشهر رفض خلالها خروجي من المنزل واشترت أمي لي بعض الملابس والأجهزة البسيطة. وانتهي الأمر ووجدت نفسي زوجة أعيش في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة ورضيت بقضاء الله. ومرت الأيام وكل يوم اكتشف فروقا كبيرة بيني وبين زوجي ربما يكون سببها الفارق في السن والتفكير, وتبخرت الأحلام التي وعدتني بها أمي, فزوجي موظف حكومي ومرتبه لايكاد يكفينا ونعيش في شقة ضيقة بحي شعبي لاتكاد تفتح الشباك حتي يطل عليك الجيران كالسجن وربما يكون السجن أهون منه, وإذا حاولت مكالمة أسرتي في التليفون تحدث خناقة علي فاتورة التليفون, ووجدتني منعزلة عن الناس. ومرت الأيام ثقيلة ووجدتني أما لثلاثة أطفال ومحملة بهموم لاحصر لها. ومنذ فترة زرت قريتي وأثناء دخولي لإحدي الصيدليات لشراء دواء لأمي إذا بي أقابل هذا الشاب ونظر كل منا للآخر دون أن ينطق بكلمة واحدة, وخرج مسرعا ليركب سيارته وينطلق. وعلمت بعد ذلك من صديقة قديمة في القرية أنه أصبح مدرسا بالجامعة وأنه حصل علي الدكتوراه من الخارج وتزوج من احدي زميلاتي بالكلية والتي كانت من نفس القرية وتصغرني بعام واحد وأنجب أيضا ثلاثة أطفال, ونظرا لتفوقه فقد سافر للعمل في الخارج وكل عام في مثل هذا الوقت يأتي ليقضي الاجازة مع أسرته هو وأولاده في القرية. وحينما مررت ببيتهم القديم إذا به قد تحول إلي بيت جميل صغير, وكأنه نفس البيت الذي حلمنا به معا. وعلمت أيضا أنه اشتري شقة واسعة وجميلة في احد الأحياء الراقية بالقاهرة. ووجدت الحلم الذي حلمت به معه يوما قد حققه ولكنه مع غيري. ورحت أتجرع آلامي وحدي فوالدي الذي أخذ قرار زواجي بمباركة أخوتي دون أن يسمع لي أحد توفاه الله, وأخوتي انشغل كل منهم بحياته وأسرته, ولم يعد أحد منهم يزورني إلا كل عام مرة, وأمي التي وعدتني بحلم الحياة في مصر المحروسة بعيدا عن الفقر لاترد علي ولاتملك من أمر نفسها شيئا, وهكذا ياسيدي ضاع عمري وحلمي وأملي. وكلما حاولت نسيان الموضوع وعدم التفكير فيه خوفا من ربي, أجد ذلك الهجر والجفاء من زوج تعدي الخمسين من العمر, وأتذكر لهفة الآخر واحترامه لي, وأتذكر نجاحه وهو الذي تجاوز الثلاثين بقليل وأراه يبدأ حياته بخطي واثقة وأنا أكاد أنهي حياتي وطموحي, فتغلبني نفسي البشرية علي التفكير فيما أنا فيه وأدخل في دوامة من الأسي والحزن, وأنزوي علي نفسي لا أجد حتي من أشكو إليه همي وحزني سوي ربي.
ورحت أسأل نفسي لماذا يفعل بنا الآباء هذا؟ ولماذا يؤكدون أنهم يرون ما لانراه؟ وماذا تفعل الفتاة إذا أجبرها أهلها علي الزواج بمن لا ترغب؟ هل تخرج عن طاعة أهلها فتصبح في نظر المجتمع مجرمة وتسبب لأهلها حرجا كبيرا وتعتبر عاصية لله تعالي في نظر المجتمع؟ أم تطيعهم فتخسر حياتها وحلمها ولن يحمل أحد معها همومها أبدا بعد ذلك وسوف يتنكر لها الجميع ولا يصبح هناك حل يرضيها ولا يرضي المجتمع؟ ولماذا يتريث الآباء اذا أرادوا أن يقرضوا شخصا ما مبلغا من المال ولا يتريثون حيث يهبون حياة بناتهم لمن يطرق بابهم متعللين بأنه عريس مبسوط ومستريح؟ وماذا أفعل وأنا لم أعد أستطيع تحمل حياتي ومشاكلي مع هذا الزوج, خصوصا بعد رؤيتي لما آل اليه حال هذا الشاب, فقد زادت الأمور سوءا وأصبحت أكره حياتي كلها. ولأول مرة أشعر بالحقد علي أحد, فلقد تمنيت لو أن هذا الشاب كان قد فشل في حياته ولم يحقق شيئا حتي تتحقق نبوءة والدي وحتي يصبح عندي سبب احتمل به حياتي, لكنه نجح وحقق كل ما كان يتمناه. وأصبحت أحقد علي زوجته التي أخذت حلمي وحصدت كل هذا, ولماذا حلمت معه طوال سنوات بهذا الحلم الجميل ثم تقطف ثمرة هذا الحلم فتاة أخري لم تعرف عنه شيئا؟ المجني عليه أنا أم الأهل أم المجتمع وبماذا تنصحني؟
* سـيدتي.. كثير من الآباء يدفعون أبناءهم إلي الجحيم معتقدين أنه الجنة, استنادا الي أفكار قديمة, لا تري المستقبل في شاب ناجح طموح اختار أن يطرق الأبواب الصحيحة, متجاهلين أن في هذا الاختيار صحيح الدين, مفضلين الزوج الجاهز الذي لن يكلفهم شيئا دون الالتفات إلي رغبة الابنة ورفضها. هذا الاستبداد في الرأي المستند الي طاعة الوالدين, والثقة في حكمة الكبار ـ التي لا تكون صائبة دائما ـ يدفع ثمنها الابناء مثلك, ولن أطيل في هذا الحديث لأنه لم يعد يجدي الآن.
الأزمةحاليا فيك, تشتعل حرائق الذكريات داخلك, لأنك لا ترين الا ما هو ليس حقك, ولا تعرفين اذا كان الماضي هو السعادة التي توقعتيها أم أنه الشقاء الذي لم يكتب لك؟.
سيدتي.. إننا نعيش الحياة التي كتبت لنا, سواء رسمناها بأيدينا أم بأيادي الآخرين.. وفي حالة مثل حالتك ليس أمامك الا الرضا بما أنت فيه, فأنت أم لثلاثة أبناء, وزوجك لم يرتكب جرما عندما اختارك زوجة له, ولم يخدع أهلك بما ليس لديه, فلماذا تستدعين كل طاقات الغضب والحقد لتسقطيها عليه الآن؟ إن الحياة ـ يا عزيزتي ـ شعلة اما أن نحترق بنارها, وإما أن نطفئها ونعيش في ظلام.. تلك النيران التي نحياها جميعا بأقدار مختلفة أفضل بكثير من الظلام الذي يحاصر روحك الآن, ظلام سيحرمك حتي من سعادة زائرة تطل عليك متمثلة في أبنائك, وهم يكبرون بين يديك, والحكمة التي تختزنينها وتدفعين ثمنها من سعادتك ستعود عليهم حتما عندما تتلافين أخطاء والديك في اختياراتهم في المستقبل ان شاء الله. وأذكرك بالحديث الشريف لرسولنا الكريم ـ صلي الله عليه وسلم ـ: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين, وجعل الهم والحزن في السخط فلماذا كل هذا السخط, إنك تنظرين الي ما في يد حبيبك السابق وزوجته, وكأن السعادة كانت تنتظرك في شقة واسعة أو في دخل مادي كبير, ويمكنك تلمس الشقاء لدي كثيرين ممن يمتلكون مثل هذه الأشياء. تخلصي مما أسميته حقدا لأن الحقد لا يسكن قلب المؤمن, وأرضي بعدل الله وقسمته وتجاهلي قسوة سريرك لتنامي جيدا, فما أصعب علي الانسان أن يظل شاخصا في موطن الألم.
اغفري لوالدك حسن ظنه وسوء تقديره, وانظري بحب وتسامح الي حياتك, ولا تشغلي نفسك بما فات لأنه لن يعود, تمني لهذا الشاب الناجح السعادة مع أسرته, لأنه لم يخطيء في حقك, وتذكري دائما تلك الحكمة التي تعلمنا فن التعامل مع ما نحن فيه حتي لو كان قاسيا ليس الشقاء أن تكون أعمي بل الشقاء أن تعجز عن احتمال العمي.. أنار الله بصيرتك وطهر روحك وأسعد أيامك مع أسرتك الصغيرة التي تحتاج الي صفاء نفسك ومحبتك.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.