أنا يا سيدي فتاة بالفرقة الثانية بإحدي الكليات, عمري19 عاما, أعيش مع أسرتي في مدينة بإحدي محافظات وجه بحري, لي ثلاث أخوات وولد جميعهم أصغر مني, يعني أنا الكبري, والكبيرة دائما عليها مسئوليات أكبر من الصغار, والدي موظف, طيب القلب, ولكن المسئولية أنهكته مبكرا, يعود من عمله الثاني بعد الظهر, منكسرا, صامتا, يطل علينا بابتسامة باهتة حزينة, يسألنا نفس السؤال كل ليلة حتي حفظناه: إزيكم با أولاد.. أخباركم إيه.. كويسين؟.. الحمد لله.
لا أتذكر أني رددت عليه, كما لا أتذكر أن جلس معنا يوما نتحاور أو نتناقش.. لا أتذكر أنه احتضنني يوما أو ربت علي رأسي وداعب شعري كما أري الآباء في الأفلام.. أما والدتي, فهمها الأول أن ننجح ونتفوق, ولغياب أبي الطويل عن البيت, تمارس قسوة مصطنعة لتحمينا من غدر الأيام, تلك القسوة التي باعدت ـ رغما عنها ـ بيننا, فأصبحت وإخوتي كل له عالمه الخاص, منغلق علي ذاته, لا يعرف أحدنا شيئا عن الآخر.
مقدمة طويلة عن عائلتي أراها ضرورية قبل الوصول إلي كارثتي.. ذات صباح, خرجت من شقتنا في طريقي إلي الجامعة.. كانت الساعة التاسعة صباحا, استوقفت تاكسيا من الطريق, ركبت في الخلف, بعد دقائق, توقف السائق ليحمل راكبا آخر, قال إنه في طريقه إلي مكان قريب من الجامعة, فتح الباب وجلس إلي جواري.. لحظات صمت طويلة, تسلل إلي خوف لا أعرف مصدره, تصلبت نظراتي في اتجاه الطريق, حتي سمعت صوت من يحاورني: يا آنسة لو سمحت, التفت إليه, فوجئت به يرش في وجهي رذاذا من أنبوب في يده, قبل أن أسأله ماذا تفعل, كان قد حدث لي شيء غريب, كنت مثل المسحورة, لم أذهب في غيبوبة, لم أنم, كل ما حدث أني شعرت بارتخاء في جسدي, وغياب في عقلي, فلم أنطق بكلمة, ظللت واجمة لوقت لا أستطيع تقديره حتي الآن, ولكني أيقنت بعد ذلك أني مكثت في السيارة بصحبة هذين الرجلين وقتا طويلا.
توقفت السيارة أمام منزل في شارع جانبي, هبط الرجلان, السائق والراكب, وطلبا مني النزول, فهبطت متكاسلة أمسك كل واحد بيد, وصعدا بي إلي شقة في عمارة.
ضغطا علي جرس الشقة, فتح الباب رجل طويل بدين, سقطت عيناه علي, عينان شريرتان, احتفظت بخوفي منهما بداخلي, طلب مني الجلوس في الصالة, وتحدث مع الشخصين فانصرفا.
لا أتذكر تحديدا ما حدث بعد ذلك, لقد أفقت لأجد نفسي عارية علي سرير وبجواري هذا البدين غارقا في نومه, تلفت حولي, حاولت النهوض, سقطت علي الأرض, أقدامي عاجزتان عن حملي.. استيقظ الوحش النائم, ردد كلمات حقيرة, فوجئت به يتجه نحوي, يمسك بي, ويحاول الاعتداء علي, قاومته بشدة, شدة العاجز الهزيل, استندت علي الحائط, وانتابتني حالة قئ شديدة والبكاء, كنت أسأله: مين انت, أنا هنا ليه.. عملت في إيه..
أسئلة بلا إجابات.. كل ما قاله لي: البسي هدومك علشان تروحي, حاولت بصعوبة أن أفعل ذلك, ساعدني, وكاد يحملني إلي سيارته, أجلسني بجواره, وذهب بي إلي مكان بعيد, مكان مزدحم بالسيارات, وقال لي: اتفضلي انزلي مع السلامة نزلت, ساهمة, لا أعي, لا أفهم, لا أقدر علي الوقوف.. سقطت علي الأرض, تجمع حولي الناس, أحضروا لي عصيرا, رشوا وجهي بالماء والعطر, سألوني عن بلدي فأخبرتهم, وسألتهم أين أنا, فأخبروني بأننا في موقف عبود بالقاهرة.. أنا في القاهرة؟ متي, كيف, ولماذا؟!
ساعدني الناس الطيبون في الوصول إلي سيارة ميكروباس, وأوصوا السائق بي وطلبوا منه أن يوصلني إلي البيت.
أمام باب الشقة, تركني السائق, دخلت إلي حجرتي منهكة, لم أتحدث مع أحد, لم يسألني أحد, فقد عدت في موعدي اليومي, أخذت وقتا طويلا حتي أستوعب ما حدث لي.. دخل الليل ودخل معه أبي, سأل عني, أتي إلي حجرتي, سألني أسئلته التقليدية, وانصرف دون أن يسمع إجابة.
يومان يا سيدي, وحيدة, خائفة, مذعورة, أخاف النوم, أخاف الخروج من شقتنا الصغيرة.. أحتاج إلي إنسان أرتمي في صدره, أحكي له ما حدث معي, ليشرح لي.. أنا لا أفهم شيئا, صدقني, لا أعرف ما الذي حدث لي؟!.
في اليوم الثالث, قررت أن أفعل شيئا, بحثت عن عيادة طببية نساء في مدينتي, توجهت إليها, قلت لها إني تعرضت لحادث وأريد أن أعرف ماذا فقدت؟.. ثارت في وجهي, واتهمتني بالصفاقة وقلة الأدب, وطردتني من عيادتها.
خرجت من عندها وإحساسي كامل بالخطيئة, وبأني مدانة ومدنسة عجزت حتي عن مواجهة الله, عجزت عن الصلاة, كرهت الدنيا, وتمنيت أن يزورني الموت.. فلا معني لحياتي.
لن يكون مناسبا يا سيدي أن تطالبني كما طالبت صاحبة الرسالة السابقة.. بإبلاغ الشرطة, ليس لأنني ـ فقط ـ لا أمتلك أي معلومات عن السائق أو الراكب, أو الوحش الشرير, ولكن لأن فضيحتي ستكون بلا ثمن.. لأن والد الفتاة السابقة لم يبلغ ولم يحم ابنته, فهل تعتقد أن والدي أو والدتي, كما وصفتهما لك, سيفعلان شيئا, أم أنهما سيبتلعان الفضيحة.. سينكسر أبي أكثر مما هو منكسر, سيهرب مني, أكثر مما هو هارب, سأطفئ أي شمعة للابتسامة في بيتنا.. علي أن أدفع الثمن وحدي, ثمن جرم لم أفعله.. علي أن أطارد شبحا لوحش, يحتل روحي وجسدي, يسكن غرفتي وملابسي, رائحته القذرة تملأ أنفي.
لا أنتظر منك كلمات, فجرحي أكبر من المواساة, لا أطلب منك أن تسأل هؤلاء الأوغاد أين ضمائرهم؟.. كل ما أردته هو أن أحكي, فما أصعب أن يحمل جسد وعمر ضئيلان مثل هذا الهم, وهذا العار, وهذا الخوف.. ربما عندما أقرأ ما أعانيه أشعر ببعض الأمان, ببعض الدفء الذي فقدته طوال عمري.
{ صغيرتي.. لست وحدك في هذا الحزن الكبير.. فكثيرات غيرك دفعن ثمنا باهظا لجرائم بشر تجردوا من إنسانيتهم واستسلموا للذئب بداخلهم.
لست وحدك, لأني تلقيت قبلك رسائل ومكالمات عديدة, لفتيات تعرضن لاعتداءات جسدية من سائقي سيارات أجرة, وابتلعن عارهن وفضيحتهن التي هي عار وفضيحة المجتمع, لأن الوصول إلي الجاني صعب, ولأن فضيحة الأهل ونظرة الناس أكبر ألما من مطاردة ذئب ضال.
شكرا يا ابنتي لأن مأساتك يمكن أن تنير الطريق لغيرك, فأنت دفعت ثمنا كبيرا, ولكن الأمل أن تحمي مأساتك آباء وبنات مثلك من هذا المصير.
ليت كل أب أو أم, يقف ويتأمل أمام كلماتك, فأبناؤنا لا يحتاجون منا فقط أن نوفر لهم المأوي والطعام, أبناؤنا يحتاجون إلي الاحتواء والحنان, إلي الحوار, لا أن يعيش كل في جزيرته, معتقدا أنه يؤدي ما عليه.
الجريمة التي ارتكبت في حقك كانت محكمة, ومن المؤكد أنها لم تكن الأولي لهؤلاء المجرمين, ولكن كيف يمكن الوصول إليهم؟.. عدالة السماء يا ابنتي لا تهتز ولا تغيب, قد تتأخر لحكمة يراها الله سبحانه وتعالي, ولكنها آتية لا ريب, سواء علمت بالعقاب أم لم تعلمي, ولكن أليس واجبا علينا أن نشترك جميعا في مواجهة مثل هؤلاء الذئاب.. أليس من الأفضل أن نغير نظرة المجتمع للضحية, ونطالبه بأن يكون أكثر إيجابية في مواجهة الجاني.
نعم, أنت صغيرة علي هذه المواجهة, ولكني أطلب منك أن تساعدينا كي نساعدك, ونحمي غيرك مما تعرضت له, اتصلي بي وأعدك أن يظل الأمر سرا, وأثق في الشرفاء بوزارة الداخلية, أن يحفظوا سرك ويبذلوا جهودهم للوصول إلي هؤلاء الجبناء.
أكرر مرة ثانية, لدي الكثير من جرائم الاغتصاب التي يرتكبها بعض سائقي التاكسي, لذلك علينا أن نوعي أبناءنا ونطالبهم بالاتصال بأي أحد في الأسرة وإبلاغه برقم التاكسي الذي يركبونه, علي أن يسمع السائق هذه المكالمة, حتي ولو كانت ادعاء, ولابد من الاحتفاظ برقم التاكسي حتي مغادرته, كما أتمني أن تخصص وزارة الداخلية رقما سهلا يمكن الاتصال به للإنقاذ العاجل في مثل هذه الحالات, أو للإبلاغ عما حدث دون الإضرار بسمعة الضحية, كما يجب متابعة سائقي سيارات الأجرة والتأكد من حسن سلوكهم كل فترة, وألا يتركوا بالسنوات لحين تجديد الرخصة الذي يتم بصورة روتينية.
ابنتي الصغيرة, كم كانت كلماتك خنجرا في قلبي, كما هي خنجر في قلب الوطن, ولكن عليك أن تتخففي مما أنت فيه, فالذنب ليس ذنبك, توجهي بقلب صادق إلي الرحيم الكريم, رب العباد, فهو القادر علي احتواء حزنك وتبديد كربك.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.