كل هذه القسوة‏!‏ .. قصص واقعيه



مات عمي يا سيدي شقيق أبي وتوءم روحه وديعا عاش هادئا مات‏.‏ كان طيبا‏,‏ مسالما‏,‏ حنونا‏,‏ معطاء‏,‏ لم يعرف الكره‏,‏ ولا الحقد‏,‏ ولا الصراع‏,‏ ولا الانتقام‏,‏ حزينة أنا حتي الموت‏,‏ يفت الغم والكمد في روحي‏,‏ ويحز في نفسي حزا‏,‏ ليس لموته فحسب‏,‏ فالموت حق‏,‏ وكل نفس ذائقة الموت‏,‏


بل لأنه مات مقهورا وحزينا‏,‏ معذبة نفسه من أقرب الناس إليه نعم يا سيدي جحدته زوجته لا سامحها الله‏,‏ وجحدته بناته الثلاث‏,‏ ولم يكن له من قلب دافيء إلا ابنه الوحيد‏,‏ وبنت أخيه‏(‏ لست أنا‏)‏ التي استضافته في بيتها‏,‏ وشملته بحبها ورعايتها إحدي وعشرين ليلة حين زعمت ابنته الكبري أنه لا مكان لأبيها في بيتها الجميل الذي يقع في إحدي ضواحي القاهرة الفاخرة‏,‏ علي الرغم من أن لديها من الأبناء اثنين فقط‏,‏ أحدهما دكتور والأخري جامعية‏,‏ ولا أعتب كثيرا علي زوجها بالرغم من سلبيته في تقويم اعوجاج زوجته تلك ابنته الكبري أول أمله في الحياة‏,‏ فرحته الغامرة حين جاءت إلي الدنيا‏,‏ ولا أنسي حين عاد من عندها وقد استضافته أربع ليال تحت إلحاح شديد من أخيها‏,‏ كم كانت سعادته النفسية‏,‏ وقد وهم بأنه قد يجد مكانا له دائما في قلبها وفي بيتها‏,‏ لا أنسي كم كانت صدمته عندما علم بأنها تعلن دون حياء أسفها لعدم وجود مكان له في بيتها‏!!‏ يا الله إن الضيق ليس في البيوت وإنما في النفوس‏.‏

أما الثانية فهي أيضا سيدة رائعة تقيم في الخليج مع زوجها وأبنائها‏,‏ تتقي الله وتحاول أن ترعي حدوده في كل شيء إلا أن تفتح بيتها الأنيق الشاغر في مدينتنا الساحلية الجميلة التي كان يعيش فيها عمي طوال حياته‏,‏ نعم رفضت بثبات عجيب أن يقيم أبوها في شقتها الخالية‏,‏ وقالت‏:‏ بيتي ليس مشاعا‏,‏ ولم يكن عمي مصدقا لما قالته في باديء الأمر‏,‏ ولم نكن نحن أيضا إلا مذهولين‏!!‏ ومن عجب أن زوجها أيضا تعامل مع الموقف بسلبية عجيبة علي الرغم من حسن خلقه وورعه وتقواه‏,‏ وقد تركاه في أحد الأيام منتظرا لهما في الشارع وأخذا طريقهما إلي القاهرة للترفيه وقضاء عشرة أيام عند الأخت الكبري التي لا مكان لأبيها في بيتها‏!!‏

أما الابنة الثالثة فهي شابة واعدة‏,‏ مثقفة‏,‏ تعمل بإحدي كليات الصفوة‏,‏ رباها عمي الحنون علي كثير من التدليل والحب والتفاني‏,‏ فلم يكن يقوي علي أن يرد لها طلبا حتي ولو اضطر أحيانا إلي الاستدانة ليلبي حاجاتها‏,‏ وكان يقول للجميع‏:‏ دعوها وشأنها فهي ابنه الشيخوخة‏,‏ هل تصدق يا سيدي‏,‏ وهل تصدقون أيها القراء الأعزاء أنها لم تسأل عن والدها قرابة شهر ونصف الشهر إلا مرتين أو ثلاث‏,‏ وبعد إلحاح منا ومن أخيها‏,‏ وكانت أحيانا تتطاول علينا بالكلمات بدعوي أنه لا شأن لنا‏,‏ وأننا أناس متطفلون‏.‏

ضاع أمل عمي في بناته‏,‏ واندحرت أمانيه‏,‏ ورحل هناؤه‏,‏ ولم يسانده سوي ابنه البار الذي حار واحتار فيما يمكن أن يقدمه لأبيه‏,‏ وقد كانت ألسنة أخواته حدادا عليه تتهمه بالتقصير‏,‏ وكن يبرئن أنفسهن بدعوي أن الوالدين هما مسئولية الابن دون الابنه‏!‏ وتضافرنا جميعا علي رأي واحد‏,‏ ولم تخرج واحدة منهن تنهر الأخري وتردها إلي صواب الحق وتقوي الله‏,‏ وكن بحق بنات الملك لير يا الله كيف قدت قلوبهن من حجر‏!!‏

وقد تسألني بالطبع عن زوجته ودورها إنها يا سيدي ممن قال فيهن رسول الله‏:‏ يكفرن العشير ويقلن‏:‏ ما رأيت منك خيرا قط عاشت معه رحلة طويلة مليئة بالكدر والمشاحنات التي كانت تصطنعها‏,‏ وكلما مرت السنون ازدادت شراسة وقسوة وبذاءة‏,‏ وازداد هو سكوتا وضعفا واستسلاما‏...‏ تقول‏:‏ ما أحببته قط‏,‏ ونقول لها‏:‏ ولماذا لم تطلبي الطلاق في حينه؟ وهل يحق لك أن تقهريه في شيخوخته‏,‏ وأن تهيني إنسانيته‏,‏ وأن تسمعيه في كل لحظة ما لا يطيق بشر أن يسمعه‏,‏ ثم تدفعينه دفعا إلي ترك البيت‏,‏ بل بكل أسف طرده من بيته‏,‏ وعدم الاستجابة لكل رجاءاتنا وتوسلاتنا‏,‏ وتهديدنا لك بالويل والعذاب من الله عز وجل‏.‏

عاش عمي يا سيدي أياما طويلة حزينا يقلب كفيه‏,‏ يعاني من شعور بالذل‏,‏ والعجز والقهر والحزن‏,‏ يسأل نفسه كل لحظة ولا يدري ماذا قدم من سوء لبناته وزوجته ليلقي منهن كل هذا الجحود والنكران؟

يتحدث إلي نفسه بصوت مسموع معاتبا الكبري تارة‏,‏ متلهفا وقلقا علي الوسطي ثانية‏,‏ سائلا ومتشوقا إلي الصغري تارة ثالثة كان هذا عمي يا سيدي يحترق في صمت كان مثل الطفل إذا تأخر عنه ابنه البار ساعة أو اثنتين‏,‏ يجول في غرفته في دار المسنين‏,‏ حائر العينين‏,‏ فإذا ما التقاه عادت إليه روحه‏,‏ وقال له‏:‏ يا ابني أنت الأمان لي‏.‏

كم تعذب ابن عمي هذا لا يدري ماذا يصنع مع أبيه؟ أيتركه في شقة وحده وهو أعزب لم يتزوج بعد؟ ويقضي وقتا طويلا في عمله بعيدا‏,‏ أم يدعه مع أناس طيبين مخلصين في إحدي هذه الدور التي تحاول أن تضمد جراحات السنين وقسوة الابناء علي آبائهم وأني لها‏!‏ ولم يكن عنده إلا هذا الخيار‏.‏

لم يحتمل عمي غربته النفسية طويلا‏,‏ فتك به القهر والجحود والألم‏,‏ ولم تكن إلا بضعة أيام وقد راح في غيبوبة عميقة أراحه الله بعدها من كل عذاباته ودموعه ونزيف قلبه‏...‏ ودعاه إلي جواره‏,‏ فلبي هادئا مسالما ومسرعا‏..‏ ووري عمي الثري ــ يرحمه الله ــ آه يا عمي الحبيب كيف أقتص لك ممن ذبحوك وعجلوا بموتك قهرا وكمدا وتعاسة وحيرة؟‏....‏ حسبي الله ونعم الوكيل سنذكرك يا عمي دائما وندعوك وندعو لك في أماسي الشوق والحنين‏,‏ ولتقرأ لك كل القلوب الرحيمة العامرة الفاتحة داعية الله ان يتغمدك برحمته الواسعة‏.‏

أما أنتن أيتها الناعمات المرفهات في بيوتكن الدافئة فأذن بحرب من الله ورسوله فإنه يمهل ولا يهمل‏.‏

*‏ سيدتي‏....‏ أصابتني رسالتك بالغم والنكد‏,‏ واستفزت كل المشاعر الغاضبة في نفسي تجاه بنات عمك الثلاث‏,‏ فهن تمردن علي ما ألفناه من أن البنت تكون أكثر عطفا وحنانا علي الأب من الولد‏,‏ فما الذي دفع هؤلاء البنات إلي هذا العقوق‏,‏ وتلك القسوة غير المبررة‏,‏ لا أعرف كيف يمكنهن النوم أو مواصلة حياتهن بأمان بعدما فعلنه بوالدهن‏,‏ ألم يتذكرن قول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم‏:‏ كل الذنوب يؤخر الله تعالي ما شاء منها إلي يوم القيامة إلا عقوق الوالدين‏.‏

ألم يحفظن وهن صغارا ما جاء في الكتاب الحكيم في سورة الإسراء‏:‏ وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏,‏ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما‏,‏ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا‏.‏

الله سبحانه وتعالي نهانا علي أن نقول لهما أف‏,‏ مجرد حركة بالشفاه‏,‏ فماذا فعلت البنات المتعلمات بأبيهن‏,‏ هل رحمته في شيخوخته‏,‏ كما كان رفيقا حنونا بهن في صغرهن‏..‏ كيف يغمض لهن جفن‏,‏ وكيف يأمن علي أنفسهن من أطفالهن عندما يكبرن؟ دائما ما أتذكر حكاية الابن الذي كان يضع الطعام لوالده المسن في طبق من خشب بعيدا عن المائدة التي تجمعه بأسرته‏,‏ ولاحظ هذا الرجل أن طفله ينتظر حتي يفرغ جده من الطعام‏,‏ فيسارع بغسل الطبق والملعقة‏,‏ وعندما تكرر هذا الموقف‏,‏ سأله والده لماذا يفعل ذلك‏,‏ فأجابه بأنه يحافظ علي تلك الأشياء حتي يضع فيها الطعام لوالده عندما يكبر‏.‏

حكاية قديمة نتداولها ثم ننساها بدون أن نتوقف أمامها يؤرقني التفكير‏,‏ أب صالح حنون‏,‏ لماذا تتحول بناته إلي تلك الصورة الكريهة؟ هل بسبب الأم وسلوكها السيئ‏,‏ غرست في قلوبهن القسوة والجحود؟‏...‏ وإذا كانت تلك الحقيقة‏,‏ فلماذا لم تصل هذه القسوة إلي قلب الإبن؟‏!‏

سيدتي‏...‏ أقدر حزنك النبيل علي عمك‏,‏ وأشاركك الغضب من بناته‏,‏ ولكن لا أخفيك أني مشفق عليهن من غضب الله وانتقامه لأنهن أتين واحدة من الكبائر التي حذر منها النبي محمد صلي الله عليه وسلم‏:‏ ألا أدلكم علي أكبر الكبائر؟‏.‏ قالوا‏:‏ بلي يا رسول الله قال‏:‏ الإشراك بالله وعقوق الوالدين لذا فاني أدعو الله القادر علي كل شيء أن يوقظ قلوب أولئك البنات وأمهن‏,‏ فيعدن إلي الله‏,‏ طالبات عفوه ومغفرته‏,‏ متصدقات علي روح والدهن‏,‏ لعل الله يغفر لهن ويتوب عنهن‏.‏

وليتها تكون فرصة لتنبيه كل ابن غافل أو ظالم لأمه وأبيه‏,‏ فيعود إلي رشده‏,‏ ملتمسا رضائهما‏,‏ فدعواتهما مستجابة‏,‏ فلينهل من دعائهما بالخير والسعادة والستر ما استطاع‏,‏ فلا طعم ولا أمان في تلك الحياة بعد رحيل الوالدين التي يكرمنا الله كثيرا لأجلهما وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.