أنا فتاة عمري26 عاما, لا تخلو حياتي من مشاكل البنات في مثل عمري, أمل وطموح.. أحلام تتحقق وأخري تنهار.. فراغ ووحدة ما بعد التخرج في الجامعة.. مشاعر وأحاسيس جميلة لا تلقي التقدير أو تلفت الانتباه, وقلب نابض دوما ينتظر نصفه الآخر.
إلي هنا ولا جديد.. حياة تشبه كثيرا ممن نراهم, إلاإذا أضفنا الإحساس الدائم بعدم الانتماء إلي شخص أو مكان.
مشكلتي الحقيقية, بدأت منذ طفولتي ولم استوعبها إلا بعد أن كبرت.. منذ طفولتي وأنا أشعر بحاجز كبير بيننا وبين أبي.. أنا وأخواتي وأمي في ناحية, وهو في ناحية أخري.
أبي, عصبي, صوته عال, قليلا ما يبتسم, قليلا مايتكلم, ونادرا ما يجلس معنا. وعلي الرغم من كل هذه الصفات كان طيب القلب, يحاول بأقصي ما يمكنه أن نعيش حياة أفضل, بإمكانات قليلة جدا علمنا وكسانا, وجعلنا نأكل ما نريد ولا نشعر أبدا بأننا أقل ممن حولنا, ومع كل ظروف العمل الشاقة كان يرفض أن يعمل أشقائي في الاجازات حتي لا يشعروا بالمهانة.
كان هناك دائما شيء غريب في علاقتنا به, لانخافه ولا نكرهه, ولكننا في الوقت نفسه لا نألفه ونخجل منه.. لا نتحدث إليه, ولا نطلب منه شيئا, وإذا أردنا نقودا أو بعض الاحتياجات نطلبها من أمنا وهي تطلب منه.
أصبح كل ما بيننا هو السلام فقط تجنبا لصوته العالي بدون سبب من وجهة نظرنا الصغيرة.
المشكلة لم تكن كذلك عند أخوتي, فقد تعودوا علي ذلك, أما أنا فلا, كنت مندهشة ورافضة لأن تكون العلاقة مع أمي فقط, والحقيقة أني كنت أشعر بحب جارف لأبي, ولدي رغبة شديدة في التعبير عن ذلك, أريد أن أقول له بحبك يا بابا ولكن كيف وكل ما بيننا كلمات مقتضبة.. نفسي أتحدث معه عن حياتي وصديقاتي وأحلامي.. أتمني أن أقول له إحساسي الأكيد بأنه يحبنا وبشدة فيأتيني صمته الحزين أو صوته الهادر, فأنسحب داخل صمتي ليزداد خرس مشاعري.
كبرنا علي هذا الوضع يا سيدي, أب حنون يفني أيامه وعمره من أجل أبنائه, ويا للعجب, في الوقت نفسه يظهر عكس ذلك وكأنه يريد أن يثبت لنا أنه يكرهنا, وأنه ينفي عن نفسه تهمة حبه لنا.
أتذكرالآن أن أمي سألته يوما لماذا تعاملهم بهذه القسوة وأنت تحبهم, أتعرف بماذا أجابها؟.. قال: إنه لا يريدنا أن نحزن عليه عندما يموت.. وقتها شعرت بالخوف والألم, ألهذا الحد كانت مشاعره رقيقة مرهفة.. يؤهلنا بالابتعاد والألم حماية لنا من ألم أكبر!.
عندما تأقلمنا مع الأمر الواقع, بدأ أبي يشعر بالألم لأننا شديدو الالتصاق بأمنا, كان بمجرد دخوله صالة البيت, ينصرف كل منا إلي حجرته, تاركين له التليفزيون وأمي. ما نفعله كان يؤلمه ويثير غضبه فلا يعبر عنه وإنما يفتعل مشاجرة ليصرخ فينا, فأصبحنا نستشعر خطواته, فنفر من المكان حتي لا يرانا, ولا نمارس حياتنا إلا بعد أن يتناول عشاءه وينام.. الغريب أن علاقته بأمي كانت رائعة, كان يحبها ولا يستطيع أن يخدشها بكلمة, عكس فشله في إقامة علاقة معنا.
حاول أبي فتح ثقوب مضيئة في حاجز الصمت بيننا, ولكننا لم نساعده لأننا كبرنا ونحن نحترمه إلي حد الخجل, لا نشعر به, ونحتاجه, نحتاجه كضيف مرغوب فيه, ولكنه مجرد ضيف غريب.
أتعبني التفكير في علاقتي بأبي, كنت أتعذب, فأنا أريد أبا, وأبي تحديدا, أريد الشعور بحنانه وحبه, أريد تحطيم الحاجز الذي أقامه بيننا دون إرادته, والذي فشلنا في إزالته دون إرادتنا.
أحب أبي يا سيدي, أحب فيه كل شيء.. تعلمت منه الكثير دون أن يحاول ذلك.. أراه يصلي الفجر, فأصلي مثله.. يقرأ بريد الجمعة ويحكيه لأمي, فأفعل مثله. كان مثقفا برغم أنه لم يتعلم, يشتري الكتب فأقرؤها إيمانا بأنها كتب قيمة.. تعلمت منه عشق الصمت وكتمان المشاعر والتألم وحدي.. ولكن الشوق إليه بدأ يجرفني ويؤلمني, أنظر في عينيه كثيرا فلا أري منه سوي حزن دفين وجسد منهك ما بين العمل وبين العبادة, فكنت أشفق عليه وأتمني لو أقبل يديه وقدميه وأطلب منه أن يستريح ويجلس بيننا قليلا, ولكني كل مرة كنت أخجل أن أفعل ذلك, فعلاقتنا لم تسمح يوما بأقل من ذلك بقليل, فكيف لي أن أجرؤ علي الكثير؟!.
ولأن للعمر أحكاما, وجدت نفسي بعد تفكير طويل أعفي أبي من أي مسئولية في إقامة الجدار الصامت بيننا, وأننا ساهمنا بقدر معه في بنائه, فبدأت في الاهتمام به في حدود المسموح, انتهز لحظات دخوله البيت لأجلس معه, دون كلام, أجهز له الطعام, أعد له الشاي, وأكوي له ملابسه.
بعدها بقليل, ولظروف طارئة لم أر أبي لمدة يومين متواصلين, فرجعت وأنا في شدة الشوق إليه, وقررت أن أقول له برغم كل الحواجز إني أحبه بشدة وانه اعظم اب, سأحضنه حتي لو رفض أو تمنع, سأقبل يده وقدمه وأتكلم معه كثيرا كثيرا.
دخلت البيت وسألت ماما بلهفة بابا فين فقالت: انه عاد من عمله وذهب في مشوار قصير, وأخبرتني أنه سأل عني بلهفة. فقلت لها سأعد له الشاي حتي يعود, ووقفت أذيب سكره بالمقدار الذي يحبه, ثم, سمعت صوتا ينادي علينا بهلع, وسمعت أمي بعدها تصرخ, فوقفت مكاني وشعرت بأن بيتنا ينهار.. خرجت مذهولة لأسمع مالم أتوقعه:أبوك.. أبوك.. أجري إلي الخارج بلا صوت ولا دموع فين بابا, لا يجيبني أحد ويجيبني المشهد.. أبي ملقي علي الأرض بالقرب من البيت, صدمته سيارة مسرعة.. فمات؟.. لماذا مت يا أبي قبل أن أقول لك إني أحبك.
الآن فهمت لماذا كان أبي ينظر لي كثيرا في أيامه الأخيرة.. الآن فهمت سر اشتياقي الدائم له, وكأنني كنت أحس أنه سيفارقني بدون كلام.. كعادته.
عاش وحيدا ومات وحيدا.. لم نكن حوله وهو يموت كما كنا دائما.
لماذا يرحل أبي هكذا, وكيف أقبل يده وهي في التراب؟ وكيف أقبل قدمه.
كسرت وتألمت قبل موته.. كيف أعيش الآن, فإن احتملت مصيبتي واحتسبتها عند الله, كيف أروي عطشي الدائم للأبوة.. لدي اشتياق غريب لأبي.
إن عقلي لا يتوقف لحظة عن التفكير في الموت.. من ألوم؟.. هل ألوم أبي؟ وقد كان يدور في الساقية من أجلنا, فلا أصحاب ولا معارف, لم يكن لديه وقت حتي يجلس معنا؟.. هل ألوم نفسي لأني لم أتواصل معه.. لم أشبع من حضنه ولمسة يده وصوته الذي صمت طويلا.
حياتي كابوس متصل, يطاردني أبي مع كل حادث في طريق, مع ذكر الموت أو رائحته, مع الشوق إلي كلمة بابا.. حتي كلمة بحبك مقدرتش أقولها له.
لا تقل لي ـ سيدي ـ ادعي له أو تقربي إلي الله.. لأني أفعل هذا, ولكن لاشيء ينسيني, لقد أصبحت عجوزا تعيش بقلب مشروخ وجسد فتاة لا يعترف بالحياة, وخيال طفل يخشي من كل شيء حوله, يخاف عبور الطريق, ويهاب النوم حتي لا يري كابوسا يعرفه جيدا.
كل أملي في الحياة أن تكتب عن أبي في الصفحة التي قرأها وأحبها دوما.. اكتب عن رجل بسيط أحب دون مقابل..
هذا كل ما يمكن أن تفعله من أجل إنسانة محطمة, تكتب عن أبيها وسوف تكون هذه أول فرحة تدخل قلبها بعد موت أبيها الذي لم يمنحها آخر فرصة كي تقول له بحبك يابابا.
سيدتي : لقد انغرست كلماتك كمخالب القط في روحي.. وكأني أري نفسي في المرآة, وأسمع صوت أبنائي في رسالتك.. فأغلبنا هذا الأب, الذي تسرقه الحياة وتفاصيلها, فيجد نفسه في حرب مع لقمة العيش, يصارع في الشارع وفي العمل, ثم يعود إلي بيته منهكا, محملا بفزع خفي علي الأبناء ومستقبلهم, قلقا من شبح الموت الذي قد يختطفه تاركا أبناءه يتامي, فتشتد قسوته عليهم, عسي أن تزيدهم نار القسوة قوة, دون أن ندري أننا بذلك نحاصر حدائق الحب في قلوبهم الصغيرة, ونمنع الثمار الناضجة من السقوط بين أيدينا.
أعادت لي رسالتك صورة أبي الذي مات وحيدا وأغلب أبنائه علي سفر, كان يشبه أباك في كثير من التفاصيل.. وكنا نشبهك أنا وأخوتي في نفس الإحساس به, عندما كبرت فهمت أن أبي كان ضعيفا, خائفا, ولكنه يخفي الاحساس بالخوف والضعف خلف الصوت العالي والابتعاد.. وفي اللحظة التي كنت أرصد في عينيه هذا الضعف الحزين, أفر من أمامه مثلما تفر الكلمات.. كنت أتمني مثلك أن يعيش قليلا كي أسمع منه, أسأله, أو حتي أقول له إني أحبه, ولكنها الأقدار. أب واحد خير من عشرة معلمين هكذا قال جان جاك روسو وهكذا تعلمت بعد تعدد المعلمين في حياتي وغياب أبي. وعاهدت نفسي ألا أكون مثل أبي مع أبنائي, ولكن رسالتك أعادتني إلي الواقع, أسير علي نفس الدرب, وكثيرون من حولي هم نفس الأب, يغفلون أن السعادة هي اللمة مع الأبناء, وأن الحنان والحوار العائلي أهم من الهدايا واللعب والحرص علي توفير كل ما يطلبه الأبناء, فالصغار ــ ياعزيزتي ــ لايعرفون ما الذي يجب أن يحصلوا عليه من الآباء, ولكن الآباء يعرفون ما الذي يجب أن يقدموه للأبناء وإن لم يفعلوا. نعاهد أنفسنا كثيرا علي ألا نكرر الأخطاء ولكننا بسذاجة وجهل نستسلم لطاحونة الحياة, ف
ننسي أو نتناسي, ونري في الحب والاحتواء كلاما نظريا لا يحقق رغبات الصغار, حتي تصدمنا كلمات بريئة صادقة مثل التي جاءت في رسالتك, لنكتشف أننا لانحتكر الحكمة لمجرد أننا كبار في العمر.
قد يؤلمك ياصغيرتي أنك فهمت متأخرا أن والدك منحك كرمة عنب, ولم تستطيعي أن تقدمي له عنقودا واحدا, ولكن الحياة لم تنته, ومازال لديك متسع لتمنحيه المزيد من عناقيد العنب, لن أقول لك ــ كما طلبت ــ كلاما أنت تعرفينه, ولن أقول إن عملك الصالح سيصب في رصيده عند الله سبحانه وتعالي, ولكن سأدعوك إلي الحديث عن والدك الراحل, الذي استراح بعد طول عناء في مقره الأخير ناعما بثواب حسن تربيتكم, تحدثي عن حبك له مع أشقائك, فسري لهم لماذا كان يزأر كالأسد لكنه أبدا لن يلتهم صغاره.. فالمؤلم أن نعيش ولا نفهم سر القسوة التي قد نراها ممن نحب, ولكن عندما نفهمها تتحول إلي أنهار من الحب ستفيض عليك وعلي أسرتك الصغيرة وعلي أبنائك في المستقبل.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.