معني السعادة ... قصص حقيقيه




{‏ قد تكون رسالتي مستفزة لقراء بريد الجمعة أو لضيوفه‏,‏ لأنه بمفهوم الرسائل المنشورة التي أقرؤها‏,‏ لاتوجد لدي مشكلة‏,‏ فلا أحتاج إلي مساعدة من أحد‏,‏ بل كثيرون هم الذين يسألونني المساعدة‏..‏ ولا ينقصني شئ والحمد لله‏,‏ ولم أرتكب معصية أندم عليها‏,‏ وأريد أن أغتسل أو أغسل ضميري بالاعتراف‏,‏ كل مشكلتي في الحياة أني لا ولم أعرف طريقا للسعادة‏.‏ لدي كل مقوماتها ولكنها تخاصمني وتهرب مني‏,‏ فلم أشعر أبدا بالشبع‏,‏ بالرضا‏,‏ بالبهجة‏.‏


هل أبدأ معك بما انتهيت إليه‏,‏ أم أبدأ بما ولدت عليه؟



لاتغيب عن ذاكرتي صورة بيتنا الريفي الصغير في إحدي قري مصر‏..‏ ثلاث حجرات تؤوينا‏,‏ ثمانية أفراد‏,‏ أبي وأمي في غرفة‏,‏ وستة من الأبناء مكدسين في حجرتين ضيقتين علي أسرة من الجريد‏.‏ لم يكن ترتيبي الثالث في العائلة‏,‏ يعني أي شئ‏,‏ فالابنة الكبري مثل آخر العنقود تماما‏,‏ لا تدليل للأصغر ولا مسئولية علي الأكبر‏,‏ كلنا سواسية‏,‏ نلقي نفس المعاملة من القسوة والإهمال‏..‏ لم تكن قسوة متعمدة كما لم يكن الإهمال‏..‏ إنها صعوبة حياة الفقراء‏,‏ أب يعمل في مهنة حقيرة‏,‏ يجمع قروشا عديدة‏,‏ يعود بها منهكا كل مساء‏,‏ لايطيق كلمة في البيت‏,‏ لايجرؤ أحد منا علي طلب شئ‏,‏ وإلا كان جزاؤه الصراخ والضرب‏..‏


أما أمي فكانت مثل أغلب الأمهات الفقيرات في الريف‏,‏ مدبرة جدا‏,‏ تساعد علي المعيشة بتربية الطيور في صحن البيت‏,‏ تبيع البيض‏,‏ وتحتفظ بالنقود لوقت عوزة كما كانت تردد‏.‏


لم يكن من حقي أن أحلم مثل أقراني في المدرسة‏..‏ كنت أخجل من ملابسي ومن حذائي الممزق‏,‏ فأنأي بنفسي بعيدا عن أبناء الأكابر‏..‏ لم يكن والدي حريصا في حياته علي شئ‏,‏ مثل حرصه علي إلحاقنا بالمدارس‏.‏ لايقبل أن يفشل أحدنا أو لا يتفوق‏,‏ كان يردد علي مسامعنا كل لحظة‏:‏ أحسن لي يقولوا إبني مات ولا يقولوا إنه سقط في الامتحان‏.‏ بهذا المعني‏,‏ كان لابد أن ننجح خوفا وليس رغبة في التفوق‏,‏ التضحية الأولي في مشروع أبي كانت بأختي الكبري‏,‏ فعلي الرغم من نجاحها بمجموع كبير في الشهادة الإعدادية‏,‏ ألحقها بدبلوم التجارة وزوجها لأول طارق من البلدة حتي يتخفف من عبئها‏,‏ لأنه يري أن البنت في النهاية لبيت زوجها‏.‏ وحتي لا أطيل‏,‏ التحقنا جميعا بالجامعة إلا شقيقا واحدا دخل معهد المعلمين وأصبح مدرسا في المدرسة الابتدائية‏.‏


أستوعب الآن مقدار الجهد والتعب الذي عاناه أبي‏,‏ ولكني مازلت أشعر تجاهه بغضب ما‏,‏ بخجل ما‏,‏ ربما لفقره‏,‏ ربما لقسوته؟ لا أدري‏.‏


المهم التحقت بإحدي الكليات‏,‏ وأحببت زميلة لي وبادلتني الحب‏,‏ واتفقنا علي الزواج بعد التخرج‏,‏ ولكن عندما ذهبت لطلب يدها‏,‏ رفضني والدها بعنف وقسوة عندما عرف بوضعي الاجتماعي‏...‏ كانت هذه المرة الأخيرة التي أتحدث فيها بصراحة عن وظيفة والدي ـ رحمه الله‏..‏ بعد تأديتي الخدمة العسكرية‏,‏ في بداية الثمانينيات انتهزت أول فرصة وسافرت إلي العراق‏,‏ عملت في كل شئ‏,‏ في المقاهي‏,‏ بيع أشرطة الكاسيت‏,‏ عامل معماري‏,‏ شاركت في الجيش العراقي في أثناء حربه ضد إيران‏,‏ كنت أرسل نقودا كثيرة لأسرتي‏,‏ ورجوت والدي أن يتوقف عن العمل‏,‏ ويشتري أرضا زراعية وأراضي بناء‏,‏ واستجاب لي‏,‏ ولكن القدر لم يمهله حتي يستمتع بالراحة‏,‏ توفاه الله وأنا بعيد عنه‏.‏ أحس بألم شديد كلما تذكرت إحساسي يوم معرفتي بوفاته‏..‏ لن أقول إني كنت سعيدا‏,‏ الحقيقة أحسست براحة‏,‏ لأن هذا الرجل الفقير ــ الذي حرمتني وظيفته من الزواج بمن أحببتها ــ قد رحل‏.‏

أرجو ألا تصفني بصفات سيئة‏,‏ فأنا أكتب لك حتي أستريح‏.‏


عدت إلي مصر في النصف الثاني من الثمانينيات‏,‏ معي ثروة لا بأس بها‏,‏ بعت الأرض التي اشتراها لي والدي بأضعاف أضعاف ثمنها‏.‏ واشتريت شقة فاخرة بالمحافظة التي أنتمي إليها‏,‏ وافتتحت مكتبا أمارس من خلاله عملي‏.‏ أمسكت بأصابعي مفاتيح النجاح والثروة‏,‏ بعض المال وكثير من المظاهر‏,‏ سيارة فارهة‏,‏ ملابس أنيقة‏,‏ ثقة في النفس ــ حتي لو كانت مدعاة ــ تفتح لك كل الأبواب المغلقة‏,‏ اشتريت أرضا وعقارات وبعت‏,‏ حتي أصبحت أحد الأسماء المعروفة في محافظتي‏.‏


وقتها قررت أن أتزوج‏,‏ ذهبت إلي أسرة عريقة‏,‏ عرضت مالدي‏,‏ فلم يسألني أحد عن وظيقة والدي‏,‏ واكتفوا بأنه رحل عن الحياة‏..‏ تزوجت من فتاة جميلة تصغرني بأكثر من عشر سنوات‏,‏ كانت ومازالت نعم الزوجة‏,‏ ولكني لم أحبها يوما‏,‏ بل علي العكس أبغضها أحيانا‏,‏ وأسخر من أسرتها‏,‏ وأتهمها كثيرا بأن أهلها الأثرياء دللوها وأفسدوها‏.‏


الآن ياسيدي أنا متزوج منذ سنوات‏,‏ رزقني الله بولدين جميلين‏,‏ علاقتي سطحية بأشقائي‏,‏ فهم في مستوي أقل مني‏,‏ يظهرون في حياتي عندما يحتاجون مني شيئا وبالتحديد نقود‏,‏ أمنحهم ما يريدون‏,‏ ولكني لست حريصا علي التواصل معهم‏.‏


ستسألني‏:‏ وأين أمك؟‏..‏ رحلت أمي منذ شهور قليلة‏..‏ هي الإنسانة الوحيدة التي تعذبني‏..‏ جافيتها طويلا‏,‏ حرصت علي ألا تظهر في حفل زفافي‏,‏ لم أدعها يوما لزيارتي في البيت‏,‏ خشية أن يظهر أصلي المتواضع أمام زوجتي‏,‏ أو أمام المجتمع الجديد الذي أنتمي إليه‏.‏ نعم أرسلتها لأداء فريضة الحج وكنت أمنحها مبلغا ماليا كبيرا كل شهر‏,‏ وبنيت لها بيتا رائعا في قريتنا‏,‏ ولكني أخجل منها‏.‏


مات أبي‏,‏ وماتت أمي‏,‏ أصبحت ثريا‏,‏ متزوج من إمرأة جميلة من أسرة عريقة‏,‏ لدي الأبناء والوظيفة المرموقة‏,‏ ولكني لست سعيدا‏,‏ بل قل أعيش تعاسة لا تنتهي‏,‏ قلبي دائما منقبض وحزين‏,‏ لا أحب رؤية وجهي في المرآة‏,‏ يراودني من وقت لآخر إحساس غريب لا أفهمه بالشوق إلي بيتنا القديم‏,‏ إلي السرير الجريد والطبلية‏..‏ لم أكن وقتها سعيدا‏.‏ والآن لست سعيدا ولا أعرف إلي متي ستظل حياتي هكذا؟‏!‏

{‏ سيدي‏..‏ هل تريد أن أبدأ معك من بداية حياتك أم من تلك النقطة أو التساؤل الذي طرحته‏:‏ أين السعادة؟‏.‏ سعادتك التي لم تعثر عليها وأنت فقير‏,‏ غاضب‏,‏ ناقم علي والديك لأنهما فقيران‏..‏ وسعادتك التي لم ترها وأنت تملك كل ما افتقدته صغيرا‏.‏ لقد أيقنت بنفسك أن أموالك الكثيرة‏,‏ ومصاهرتك لأسرة عريقة‏,‏ سيارتك الفارهة‏,‏ وابتعادك عن كل ما يذكرك بفقرك‏,‏ كل هذا لم يجعلك تحس بطعم السعادة ولا تعرف لها طريقا‏,‏ ولن تعرف إذا وقفت في مكانك‏,‏ تنظر من نفس الزاوية لتري ما تريد أن يكون ماثلا بين يديك‏,‏ لأنك باختصار شديد تقف في زاوية مظلمة داخل ذاتك‏,‏ ولن تتحرك خطوة إلا إذا تصالحت أولا مع نفسك وأنرت ما بداخلك حتي تري ما حولك‏.‏

دفعتني رسالتك دفعا للبحث عن معني ومفهوم للسعادة‏,‏ واكتشفت أنها هي ذلك الشعور المريح الذي يغمرك عندما تدخل البهجة إلي قلوب الآخرين‏,‏ اكتشفت أيضا أنها في التقوي‏,‏ العطاء‏,‏ الرضا‏,‏ الفضيلة‏,‏ الاستقامة‏,‏ وراحة الضمير‏.‏


أين أنت سيدي من كل هؤلاء‏,‏ إن أنانيتك جعلتك تفكر منذ صغرك في نفسك فقط‏,‏ تفرغت لإدانة والدك الغني بأولاده‏,‏ المكافح‏,‏ الذي لم يك لصا‏,‏ أو متسولا‏,‏ وإنما كان عاملا غني النفس آمن بأن من كان له أبناء لا يمكن أن يبقي فقيرا طويلا‏,‏ ولكنك ــ وأنت كبير وناضج ــ لم تخجل ولم تتردد في وصف وظيفته بـ الحقيرة‏,‏ وظيفته التي أوصلتك لما أنت فيه‏,‏ وأدخلت أشقاءك الجامعة‏,‏ وما كان أسهل عليه أن يطلقكم في الشوارع تعملون وتتسولون‏,‏ لقد آمن والدك بمقولة العالم الجليل ابن حزم الأندلسي نقطة الماء المستمرة تحفر عمق الصخرة‏,‏ فظل يعمل حتي تخرجتم وسافرتم وأثريتم وصاهرتم الأثرياء‏.‏

سيدي‏,‏ ليس من الطبيعي أن أغضب في ردي عليك‏,‏ ولكن رسالتك إستفزت شيئا في نفسي‏,‏ ربما رحيل والديك دون أن يلقيا منك التكريم الواجب لهما‏,‏ ربما لو كانا أحياء‏,‏ لطلبت منك أن تجلس تحت أقدامهما تقبلها وتطلب منهما العفو والسماح عن كل ما دار ويدور في نفسك حتي الآن‏.‏ فلا الفقر يستطيع إذلال النفوس القوية‏,‏ ولا الثروة تستطيع أن ترفع النفوس الدنيئة‏.‏


سيدي‏..‏ نحن نحتقر أشياء كثيرة لكيلا نحتقر أنفسنا‏,‏ فعليك أن تعترف أولا بأن ما تكبر أحد إلا لنقص وجده في نفسه‏,‏ وأنت تعاني من هذا الشعور بالنقص‏,‏ ولن تشفي منه‏,‏ إلا إذا أعدت الحق لوالدك‏,‏ قدر ما فعله لك‏,‏ أفخر به‏,‏ إحك كفاحه ونضاله ومعاناته لزوجتك ولأبنائك ولأصدقائك‏,‏ فكلما ارتفع الشريف تواضع‏,‏ وكلما ارتفع الوضيع تكبر‏.‏

سيدي‏..‏ أتلمس بداخلك عذاب الضمير‏,‏ ولكنك تأبي المواجهة والاعتراف‏,‏ واجه ذاتك حتي لا تفقد زوجتك وابنيك وقبلهما نفسك‏,‏ تصدق لوالديك‏,‏ وارع أشقاءك‏,‏ وتذكر قول رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم‏:‏ بر أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك فأدناك‏.‏

فثروتك الحقيقية لن تكون إلا في نفسك‏,‏ تصالح مع ماضيك فليس فيه ما يخجل‏,‏ وعد إلي الله‏,‏ لأني أراك بعيدا عنه‏,‏ فلم تذكره مرة واحدة في رسالتك‏,‏ أزح الغشاوة من علي قلبك‏,‏ فتسمو روحك‏,‏ وتتلمس السعادة التي تشتاق إليها‏,‏ وهي بين يديك ولكنك لاتري‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.