أنا سيدة لم أتجاوز بعد منتصف الثلاثينيات, عندي أشياء كثيرة يحسدني عليها الناس.. عندي البيت الأنيق, السيارات الفارهة, المال, والأبناء ولكني أشعر بأني أتعس البشر, أعيش في سجن قضبانه من ذهب, وباب الخروج أمامي ولا أستطيع الحركة, علي الرغم من أني دخلت بكامل إرادتي, تلك الإرادة التي تهزمني الآن, وترفض أن تأخذ بيدي نحو الهروب إلي الحياة.
وحتي لاتصبح الكلمات مثل المعادلات الحسابية المعقدة, سأعود إلي البداية, كنت مثل كثير من بنات مصر.. نشأت في أسرة تنتمي إلي الطبقة المتوسطة.. والدي موظف كبير في إحدي محافظات الدلتا, والدتي جامعية, ولي شقيقان أكبر مني, وهذا يعني أني كنت مدللة من كل أفراد الأسرة.. لا أتذكر أي معاناة في سنوات طفولتي وصباي, سوي تلك الأشياء الصغيرة, مثل الخلاف حول ملابسي, أو تدخل شقيقي بمراقبتي, أو فرض سيطرتهم الذكورية, وكان والدي دائما ماينصفني عليهما, وعلي أمي أيضا, لأنها كانت تري أنه يدللني أكثر مما يجب, وكانت أكثر قسوة منه, ولكني كنت لا ألتفت إلي تعليماتها, بحجة أن والدي سمح لي بأن أفعل ما أشاء.
تلك الحرية التي تعاملت معها باستهتار, مع أن والدي كان يراها ثقة في, هي التي دفعتني وأنا في السنة الأولي بالجامعة إلي الدخول في علاقة عاطفية مع شاب غير مناسب بالمرة, لا في مستواه الثقافي ولا المادي, ولكني رأيت بعقلي وقتها أن هذا هو الحب, فأخلصت له, وتماديت في علاقتي معه, علي الرغم من اعتراض كل أفراد أسرتي بمن فيهم أبي, وعندما رضخوا لرغبتي في الزواج منه, وطلبت منه أن يتقدم لخطبتي اختفي تماما, بعدما سرق من عمري أحلي خمس سنوات.
خرجت من تلك التجربة محطمة تماما, فاقدة الثقة في كل الرجال, وحاولت نسيان ما أنا فيه بالسهر كل ليلة. دون الالتفات إلي استجداءات أبي أو قسوة أمي, بعدما انشغل شقيقاي, كل بحياته الخاصة.
وفي أيام تمردي وانطلاقي شاءت الصدفة أن تجمعني برجل خليجي, وسيم, ثري, يكبرني بنحو15 عاما.. كان حنونا إلي أقصي حد, سمع مني حكايتي, استوعبني, وأحاطني بكل مشاعر الحب والاهتمام, حتي بدأت أنسي معه طعنة الغدر التي تلقيتها, ومع أنه متزوج من سيدة ببلده وله منها ثلاثة أبناء, إلا أنه عرض علي الزواج, ودون أي تفكير, أعلنت موافقتي, ولكني طلبت منه ألا يخبر أسرتي بأنه متزوج.
تقدم هذا الرجل إلي والدي طالبا يدي, وقوبل بالرفض الشديد, لأنه من بلد آخر, وبسبب فارق العمر. وأمام إصراري الشديد, رضخ والدي لرغبتي علي ألا أسافر معه, ويشتري لي شقة في القاهرة أقيم فيها, ويزورني كل شهر. تزوجنا وعشت أحلي أيام حياتي, كل أسبوع في بلد مختلف, مرة في أوروبا وأخري في أمريكا, حتي كنت أسافر إليه, ألتقيه في مدينة ترانزيت, أقضي معه24 ساعة ثم أعود إلي مصر, لأنتظر المغامرة الجديدة.
مر عامان علي زواجنا, كنت فيهما أميرة متوجة, حتي حدث ماقلب حياتنا.
لم أحك لك أننا اتقفنا علي عدم الإنجاب, والحقيقة أني لم ألتزم بهذا الاتفاق عمدا, فقد أحببته وتمنيت منه طفلا, وآلمني إحساسي بالأمومة, فتركت نفسي حتي أصبحت حاملا, وأخبرته, فجن جنونه, وانقلب علي وهددني بالطلاق, وخاصمني. غاب عني شهورا, كانت جحيما بالنسبة لي.. هل أضحي بحلم الأمومة, وأقتل ابني بيدي أم أضحي بسعادتي واستقراري؟ فاخترت الثانية, وكأن الله استجاب لدعائي.. فوجئت به أمامي في بيتنا, يقبل رأسي, ويؤكد لي أنه لن يضحي بي أبدا وأنه سيكون سعيدا بابني بشرط واحد, أن أذهب لأقيم معه في وطنه, فهو يريد أن ينشأ ابنه مع أشقائه, وفي البيئة التي يراها مناسبة له.
أمام حنانه وتصديقي له, وافقت, وأقنعت أسرتي بقبول هذا الوضع, وسافرت. أسكن قصرا هائلا, به ما لاعين رأت, آمر فأطاع, ولكن هنائي لم يستمر طويلا, فقد عرفت زوجته الأولي بأمر زواجه مني, وبأني انتقلت للإقامة في نفس المدينة, ومن لحظتها أعلنت علي الحرب.
مكالمات طوال الليل, سباب وتهديد ورعب, خاصة في تلك الأيام التي كان يسافر فيها إلي الخارج.. دمرت أعصابي, وبدأت لا أنام إلا بالمهدئات. وكلما حكيت له مايحدث يطالبني بالصبر والاحتمال. أنجبت طفلي في هذه الأجواء, بعدها طلب زوجي مني أن أعد أوراقي للحصول علي جنسية بلاده, فوافقت, علما بأني تنازلت عن جنسية وطني لأن هذا شرط للحصول علي الجنسية.
اعتقدت أني عندما أفعل ذلك, سيقربني أكثر منه, ويضمن لي مزيدا من الاستقرار. ولكن بعدها زادت تحرشات زوجته الأولي بي, وبدأت تحدث لي أشياء عديدة, فسرها من حولي بأنها أعمال سفلية. المهم أصبت بأمراض غيرمفهومة, مما استدعي سفري للعلاج في أوروبا دون جدوي, فطلبت منه أن يسمح لي بالبقاء قليلا مع أسرتي.. عدت إليهم واعترفت لهم ـ لأول مرة ـ بحكاية زوجته الأولي, فقاطعتني والدتي, وقالت إني أستحق كل مايحدث لي, أما أبي فكان مضطرا للوقوف بجانبي خاصة مع تدهور حالتي الصحية.
مرت شهور, واصطحبني زوجي مرة أخري إلي قصره المنيف, ولكن حالتي الصحية والنفسية ازدادت سوءا, وانعكس هذا الوضع علي طفلي.
حار الأطباء في حالتي, واحتجزت في مستشفي للأمراض النفسية في باريس عدة شهور, حتي بدأت أتعافي. فرجوت زوجي أن يسمح لي بالعودة للحياة في القاهرة, وبإلحاح مني وافق علي ذلك, فاشتري لي فيلا رائعة, أثثتها كما أحلم, وأحاطني بالخدم, اختارهم بنفسه حتي يكونوا رقباء علي.
وبدأت أحيا حياة طبيعية, واعتقدت أن الحزن مل مني ورحل, وأن السعادة صالحتني مرة أخري, نعم زوجته ظلت تطاردني, إلا أني كنت أحس بالأمان, فأنا في وطني, حتي لو لم أكن أحمل الجنسية. ولكن يبدو أني كنت واهمة. فقد لاحظت أن زوجي بدأ يغيب عني طويلا, ولم يعد يلاحقني بالمكالمات كما كان يفعل. حاولت استعادته بكل الطرق, ولكني فشلت.. فبدأت في التفتيش خلفه لاكتشف ياسيدي, أن زوجي, وبعد7 سنوات زواج, أغلبها قضيتها في العذاب بسببه, تزوج من ثالثة.. فعل معها مثلما فعل معي تماما.. اشتري لها بيتا في بلدها, وأصبح يذهب إليها بدلا مني.
فقدت صوابي, اتصلت به, صرخت في وجهه.. لماذا فعلت بي ذلك ؟ قال لي بكل هدوء, إنني التي اخترت الابتعاد عنه, وأصبحت لا أفكر إلا في نفسي, وهو لم يرتكب إثما, وإنما أتي حلالا. فقلت له إني لن أعيش معه بعد اليوم وطلبت منه الطلاق, فرد علي بأنه سيأتي لمناقشة هذا الموضوع.
تركني معذبة أسابيع حتي أتي.. أتي بوجه بارد, ملامحه كالسكين, لا أعرف لماذا خفت منه, كرهته, لا لم أكرهه, بل مات حبي له في لحظة واحدة.
قال لي سأعرض عليك عدة حلول وعليك الاختيار, إذا أردت الطلاق, عليك أن تأتي بابني لتعيشي معه في بلدي, أو تتركيه لي إذا أردت البقاء هنا, أو تستمري هكذا بلا طلاق وليس لك شأن بي, إذا أردتني سأكون معك كلما سنحت لي الظروف, وإذا لم تحبي رؤيتي فلك هذا, وسوف أستمر في توفير الحياة الكريمة لك ولابننا.
لم أستغرق وقتا طويلا في التفكير, اخترت الحل الأخير, فلن أذهب مرة أخري إلي بلده, ولن أضحي بابني.. ثمن باهظ دفعته لاختياري ولكن, مرت أعوام ثلاثة.. وأنا هكذا أمام الناس متزوجة, أعيش في فيلتي مع ابني, بدون جنسية بلدي, وأحمل جنسية وطن لم أنتم إليه ولا أعرفه ولم أعد أحبه.
يتسرب العمر من بين يدي, أشعر باحتياج انساني لمن يمكنه أن يشاركني أيامي, ولا أستطيع حتي التفكير في ذلك.. علاقتي بأهلي مازالت سيئة.. أحس أني في دائرة مغلقة, أنام بمهدئات وأصحو عليها.. علاقتي بابني متوترة, أنظر إليه أحيانا علي أنه سبب ما أعانيه.. عندما أتخيل أن حياتي ستستمر هكذا حتي النهاية يصيبني الفزع فأهرع إلي مهدئاتي لتختطفني إلي عالم لا أعرفه ولا أفكر خلاله.. فهل ياتري لايوجد أمل في العودة إلي الحياة؟!
{{ سيــــدتي.. كثير منا يضيع حياته وهو يحاول الخروج من الباب المغلق, فيضربه بقدمه, وجسده, ورأسه حتي يتحطم, وعندما ينهار ويصبح عاجزا عن الحركة يكتشف أنه لو استخدم المفتاح, لأنفتح الباب بكل يسر وسهولة. إن حياتنا لن تتغير إذا ظللنا ننظر إليها من الزاوية الواحدة الضيقة المؤلمة, فإذا أردنا التغيير, علينا أن نغير أولا من موضع الرؤية لعلنا نري ماغاب عنا.
أراك تتلمسين ماضيك, دون أن تحاولي التوقف أمامه, فدعينا نقف نحن أمامه لأن فيه الكثير من الدروس.. فالبنت المدللة ـ التي كنت عليها يوما ـ صورة متكررة في بيوتنا, صراع الأبوين علي أسلوب تربية البنت, الأب يدلل والأم تقسو أو العكس, أحدهما يفعل ذلك بدعوي الثقة, والآخر بدعوي أن البنت لابد أن ينكسر لها ضلع, علي الرغم من أن أسلوب التربية ـ للولد أو البنت ـ يجب أن يقوم علي مجموعة من القواعد تستند إلي الدين والأخلاق. أقول هذا لأن والدك هو الذي ساعدك علي الحب الخاطئ منذ البداية.
الحبيب الذي غدر بك, لم يجعلك تقفين لتراجعي نفسك, ولتسأليها عن الثقة التي منحت إياها ماذا فعلت بها؟.. وكيف تركك والدك لحياة اللهو والنسيان, لتذهبي بقدميك إلي تجربة أخري غير محسوبة, بدأت باحتياج لنسيان الطعنة, فقبلت أن تطعني أنت امرأة أخري, وتزوجت زوجها سرا.. زوج يبحث عن مغامرة شرعية, عن إثارة في حياته, من البداية هو لايريد تكوين أسرة, بل يريد عشيقة شرعية, يلاقيها في المطارات وغرف النوم, ولكن الزواج لم يشرع لمثل هذه العلاقات. وعندما فوجيء بك حاملا وكان لديه بعض المسئولية, انتقم منك وجردك من جنسيتك, ثم تركك لقمة سائغة لزوجته الأولي تكفيرا عن خطئه بزواجه منك.
ولأنك دائما تفضلين الهروب, كان المرض هو الحل, وبالتالي يظل العلاج مؤقتا, لأنك لم تستأصلي الداء, ولم تحاولي تطوير العلاقة الزوجية ووضعها في إطارها الصحيح.. كلها حلول مؤقتة, آخرها عودتك مع طفلك إلي وطنك منزوعة الجنسية.. ولأن المغامرة انتهت لدي زوجك, كان عليه أن يبحث عن أخري, وكان عليك أن تتجرعي نفس الكأس التي أذقتيها للأولي.
لقد مات الحب في قلبك وهذه ليست كارثة, فالحب مثل الإنسان له عمر, يحتاج إلي أشياء عديدة كي يحيا, ولايحتاج إلي مقدمات حتي يموت.
الكارثة الحقيقية ألا تواجهي واقعك, عليك أن تختاري,, حتي لو كان اختيارا مؤلما.. لقد حاولت كثيرا أن تأخذي ماليس لك, فدفعت الثمن, وليس أمامك إلا اختيار ماهو متاح.. أنت الآن في بيت رائع, معك ابنك وامكاناتك المادية جيدة, فهل الحياة لاتكون جميلة إلا بوجود رجل؟
الإجابة قطعا لا, فالجمال حولك في أشياء عديدة, المهم أن تتلفتي حولك وتخرجي من حصار الفكرة الواحدة التي تسكنك, اقتربي من أهلك مرة ثانية, اهتمي بابنك, استمتعي بالقراءة, بالسينما, بالعبادة, بالأصدقاء, بمساعدة المحتاجين, بالدراسة. أشياء كثيرة يمكنك أن تفعليها لتخرجي من سجنك الذي أدمنته.. فأنت حبيسة رجل, وحبيسة نفسك.. ضعي مفتاح الحياة في باب الخروج بمحبة وثقة ورضا, وتأكدي من أنك سترين في الخارج أشياء أخري جميلة يمكن أن تمنح حياتك بهجة وسعادة.. وإلي لقاء قريب بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.