قصـــور وقبـــــور ... قصص حقيقيه


بـريــد الأهــرام


أكتب إليك وأنا لا أعرف كم تبقي لي من العمر‏,‏ فقد وهنت‏,‏ وهنت علي كل من حولي‏,‏ ولكني أستحق كل ما يحدث لي‏,‏ وأدعو الله أن يغفر لي‏,‏ ويحقق أمنيتي الأخيرة قبل أن أري وجهه الكريم‏,‏ وأتمني أن تصبح قصتي هذه صدقة جارية‏,‏ يستفيد منها كل إنسان يعيش الآن ما عشته سابقا‏,‏ فيتدبر حياته‏,‏ ويقفز من مركب الغفلة قبل فوات الوقت‏.‏

سيدي‏..‏ دعني أبدأ لك الحكاية‏,‏ منذ ما يزيد علي‏40‏ عاما‏..‏ كنت شابا يافعا‏,‏ من الأوائل علي كليتي العملية‏,‏ كل أسرتي تفخر بي‏,‏ ويراني والدي ثمرة كفاحه التي كافأه الله بها‏,‏ لذا فقد كان يدللني ويغدق علي بعطائه المادي والمعنوي‏,‏ عملت بوظيفة مرموقة‏,‏ وحققت نجاحا باهرا جعلني أترقي بسرعة شديدة في عملي‏,‏ مما جعلني مطمعا لأسر وفتيات عديدات‏.‏ وحتي لا أطيل ـ فمحطات حياتي طويلة ومتعددة ـ تزوجت من فتاة جميلة‏,‏ من أسرة طيبة‏,‏ وبدأت حياتي تسير نحو الإستقرار والسعادة‏.‏


منحتني الأقدار كل شيء جميل‏,‏ فازدادت ثقة بنفسي‏,‏ بل قل غرورا‏,‏ معتقدا أن كل ما أنا فيه بسبب ذكائي وقدراتي الفذة‏..‏ كنت أستمتع بنظرات الرضي والمباهات التي تطل من عيني زوجتي‏,‏ كلما إلتقينا مع أحد‏.‏

إتفقت مع زوجتي علي تأجيل الإنجاب‏,‏ حتي أتفرغ قليلا لعملي ودراساتي‏,‏ فاستجابت وتحملت لمدة عامين‏,‏ حتي وجدتها ذات يوم تبكي وحيدة في غرفتها‏,‏ وبعد ضغط مني وإلحاح‏,‏ عرفت أن سبب دموعها هو إشتياقها إلي الإنجاب‏,‏ فاحترمت رغبتها‏,‏ وتركنا أنفسنا للأقدار‏,‏ ولم يمض وقت طويل حتي رزقنا الله بطفل جميل‏,‏ وقبل مرور عامين جاءت أيضا إبنتي وقرة عيني‏.‏

هكذا كنت رجلا ناجحا مستقرا‏,‏ وكنا أسرة سعيدة هانئة لم يكن ينقصنا شيء حتي أقبل العرض الذي قدم لي‏..‏ شركة عالمية افتتحت فرعا لها في إحدي دول الخليج في بداية السبعينيات‏,‏ تطلبني للعمل هناك بمقابل مادي مبهر‏.‏ وافقت علي الفور‏,‏ علي الرغم من رفض زوجتي‏,‏ ومحاولاتها المتكررة لإثنائي عن ذلك‏,‏ حتي أنها لجأت إلي والدي‏,‏ الذي رجاني ألا أسافر‏,‏ وأحافظ علي نجاحي في بلدي‏,‏ ولكني أصررت علي موقفي‏,‏ وسافرت قبل أسرتي‏,‏ حيث أعددت الفيلا التي ستقيم فيها ثم حضروا وبدأنا حياة جديدة‏..‏ حياة أكثر هدوءا‏,‏ أكثر أموالا‏,‏ لكنها أيضا أكثر جفاء‏.‏

إزدادت ثروتي‏,‏ وبدأت في شراء أراض في مصر‏,‏ بنيت عمارة في أرقي ضواحي القاهرة‏,‏ وفيلا في ضاحية أخري‏,‏ ولم نكن نستمتع بأي منهما إلا في أيام قليلة‏,‏ هي أيام الاجازات المصيفية‏.‏

كبر الأبناء‏,‏ وحصل إبني علي الثانوية في نهاية الثمانينيات‏,‏ وإلتحق بكلية في القاهرة‏,‏ ولكن إبنتي الصغيرة مازالت في الصف الأول الثانوي‏,‏ فماذا نفعل؟

إقترحت زوجتي أن نكتفي بما حققناه ونعود إلي مصر‏,‏ ولكني كنت أدمنت نمط الحياة في هذه المدينة‏,‏ فأرسلنا الولد ليكمل دراسته ويقيم عند جده حتي نلحق به بعد أن تنتهي شقيقته من الحصول علي الثانوية العامة‏,‏ أصيب إبني بصدمة في البداية وتعرض لأزمات نفسية عديدة بسبب إختلاف السلوكيات‏,‏ حتي أنه كان يستغيث بي ويرجوني أن يعود إلينا‏.‏ ولكن بعد عام واحد‏,‏ بدأ جده هو الذي يشكو من غيابه المتكرر عن البيت‏,‏ فكنت أتصل به وأوبخه‏,‏ فيعدني بالإلتزام‏.‏

بعد عامين تكرر الموقف وكان علي ابنتي أن تعود إلي القاهرة لدخول الجامعة‏,‏ وبعد حوارات مطولة‏,‏ طلبت من زوجتي أن تنزل معها لتنظيم حياتهما‏,‏ ثم نحدد هل تتركهما وتعود لي‏,‏ أم أعود أنا في زيارات إليهم‏.‏

كانت فكرة عودتي مستبعدة تماما عن ذهني‏,‏ لقد أصبحت جزءا من هذا المجتمع‏,‏ أشعر بغربة شديدة في مصر‏..‏ في الأسابيع القليلة التي كنت أقضيها أجد نفسي عصبيا مستفزا من سلوكيات البشر‏,‏ ملامحهم أصبحت تغضبني‏,‏ حتي طعم الشاي والطعام أصبح غريبا علي‏.‏

بعد نزول زوجتي وابنتي‏,‏ شعرت بسعادة غريبة‏,‏ أحسست أني حر‏,‏ غيرت نمط حياتي‏,‏ وأصبحت أكثر إنطلاقا‏,‏ خاصة أن البلد الذي أقيم فيه أصبح أكثر إنفتاحا وبهجة‏,‏ فعدت أكثر شبابا وحيوية‏.‏ وقررت إقناع زوجتي بألا تعود علي أن أسافر إليهم كل‏6‏ أشهر وبمبررات مختلفة استجابت زوجتي‏.‏

إعتدت بعد شهور قليلة علي إستغاثات زوجتي‏,‏ إبنك تغير‏,‏ مصاحب أولاد فاسدين‏,‏ بدأ يشرب سجائر‏,‏ بنات كثيرة تتصل به‏,‏ تزوره في البيت‏,‏ خلاص تعبت معاه‏,‏ تعال اتصرف معاه كنت أكتفي بالاتصال به‏,‏ مهددا مرة‏,‏ وواعدا مرة أخري‏.‏ مهددا بسحب السيارة أو منع المصروف‏,‏ وواعدا بمزيد من الهدايا والمزايا إذا أراح أمه وجعلها لا تشكو‏.‏

الحقيقة التي لابد أن أعترف بها الآن أني كنت غارقا في أنانيتي‏,‏ في استمتاعي بمباهج لا تليق ولا تحق لي‏,‏ وكل ما أتمناه أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم‏.‏

في العام الأخير بالجامعة سقط ابني‏,‏ وأخبرتني والدته أنه يشرب المخدرات والخمور‏,‏ وعندما واجهته‏,‏ انفجر فيها وتجاوز في الكلام بل ـ كما قالت لي ـ كاد يمد يده عليها‏.‏ في هذه المرة شعرت بالخطر‏,‏ فحصلت علي اجازة من عملي وعدت مسرعا إلي مصر‏..‏

وجدت أبنتي مكتئبة‏,‏ منزوية‏,‏ صامتة‏,‏ لم أشعر بدفء حضنها‏,‏ وكذلك زوجتي أصبحت بعيدة عني‏,‏ روحها في واد آخر‏.‏ أما ابني فكأني لا أعرفه‏,‏ لغته غريبة‏,‏ نظراته زائفة مخيفة جلست أياما‏,‏ أضع ضوابطا لما هو قادم‏,‏ قلت لهم ـ كاذبا ـ إني أعيش هناك وحيدا متألما من أجلهم‏,‏ لأني أريد لهم حياة أفضل‏,‏ لا أحب أن يعانوا أو يتعذبوا في المستقبل‏.‏ ألقيت بنصائحي وهربت بجلدي إلي عالمي مرة أخري‏.‏ مالي أنا وهذا العذاب‏,‏ أيام مراهقة ستمر علي إبني وتنتهي‏.‏

ملت زوجتي من الكلام‏,‏ اعتادت علي غيابي‏,‏ واعتدت علي حالي تخرج الولد في الجامعة وأصبح أكثر غيابا وعنفا‏,‏ حتي إنه أصبح يبيت كثيرا خارج البيت‏,‏ ولم تعد أمه تحكي لي ولم أعد أسأل‏!‏

بعد عامين من تخرجه‏,‏ أفقت علي صراخ زوجتي في التليفون الحقني‏,‏ انزل فورا‏,‏ ابنك‏,‏ صحيت من النوم‏,‏ لقيت بنت معاه بايتة في حجرته‏,‏ ومعاهم حقن وسجائر‏,‏ أنا خلاص حسيب البيت وأطفش

صدمة هزتني‏,‏ شعرت بأن كل حياتي تنهار‏,‏ كان علي أن أتخذ قرارا سريعا‏,‏ كان قراري أن أحضر ابني ليعيش معي‏,‏ أوفر له عملا هنا ليبدأ حياته بعيدا عن تلك الأجواء‏.‏ أخبرت زوجتي بقراري‏,‏ ففرحت به‏,‏ لأنها هي الأخري ألفت الحياة بدوني‏,‏ ولم تعد تلح علي في العودة‏,‏ وهذا الأمر كان يسعدني كثيرا‏,‏ وأحمد الله علي عقلها‏.‏

خلال أيام أنهيت اجراءات التأشيرة‏,‏ وأرسلت التذكرة إلي ابني‏,‏ بعد أن اتفقت معه علي أن يأتي لفترة قصيرة يستريح ويجرب الحياة هنا‏.‏ فإما أن يستمر أو يعود‏,‏ حسب رغبته‏.‏

جاء ابني وبدأت في انهاء اجراءات الاقامة‏,‏ من ضمن هذه الاجراءات يا سيدي ـ بعض الكشوف والتحاليل الطبية‏,‏ من بينها تحليل الايدز‏.‏ أعتقد أنك تصورت ماذا حدث؟

ابني‏,‏ عمري‏,‏ مصاب بالايدز‏,‏ ليس مهما كيف ومتي‏,‏ المهم أن المصيبة وقعت‏,‏ استدعاءات‏,‏ وقرارات صارمة‏..‏ الترحيل الفوري‏.‏

لا أعرف ماذا حدث ولا كيف تصرفت‏,‏ كان علي أن أغادر مع ابني‏,‏ وحيدي الذي انهار‏,‏ وأصيب بحالة هيستيرية‏.‏

عدنا إلي القاهرة‏,‏ بمصيبة الموت أهون منها‏..‏ انهارت زوجتي‏,‏ انطفأت روحي‏,‏ وعاش ابني أياما سوداء في اجراءات واستدعاءات في مصر كان ينظر إلي‏,‏ كنت أخجل من النظر إليه‏.‏

تحولت الفيلا إلي قبر‏,‏ زوجتي أصبحت شبحا‏,‏ عيناها تتهماني‏,‏ تكرهني‏,‏ ابنتي خاصمتني‏,‏ أما ابني‏.‏ فقد حاولت أن أتحدث إليه لأطمئنه بأني سأظل معه وسنبحث عن علاج‏,‏ فهو حامل للفيرس وليس مصابا به‏,‏ فثار في وجهي وقال لي‏:‏ لا تتحدث معي‏.‏ عليك أن تصمت إلي الأبد صمت ولم أتحدث حتي الآن‏.‏ منذ‏5‏ سنوات يا سيدي استيقظت من النوم‏,‏ فلم أجد ابني‏,‏ وجدت رسالة في يد أمه الغارقة في دموعها‏,‏ قالت لي‏:‏ مبروك‏,‏ ارتح وأكمل حياتك‏,‏ ابنك ساب لك البلد وسافر‏.‏

سافر ابني إلي الخارج لا أعرف كيف‏,‏ اختار منفاه‏,‏ وتركني معذبا‏,‏ الأمراض لاحقت زوجتي‏,‏ وابنتي لم تتزوج حتي الآن‏,‏ تعمل طبيبة في احد المستشفيات تكاد تقاطعنا‏,‏ وإذا تحدثت كان كلامها صراخا في وجوهنا‏,‏ أما أنا فأعيش وحيدا‏,‏ مترددا علي المساجد‏,‏ أبكي وأنا ساجد أدعو الله أن يغفر لي ويرحم ابني وابنتي وزوجتي‏..‏ أخطأت في حقهم جميعا‏,‏ نادم علي كل ما فات‏..‏ قرار خاطيء في بداية حياتي أدي بنا إلي هذه الهاوية‏.‏

سيدي‏..‏ كل ما أدعو الله به‏,‏ وأتمني أن يستجيب لي‏,‏ أن يقرأ ابني كلماتي ـ إذا كان حيا ـ ويرحم شيخوختي ويطمئني عليه‏,‏ يكلمني مرة واحدة‏,‏ يقول لي إنه سامحني‏,‏ هذا هو كل حلمي الآن‏,‏ فهل يتحقق؟‏!‏

سيدي‏..‏ أفهم جيدا كلماتك‏,‏ وأتمني أن يفهمها كل من يتعامل مع الحياة مثلما تعاملت معها‏.‏ عشت مثلك سنوات في الخليج ـ وإن كانت فترة محدودة ـ ورأيت الذين يكنزون الذهب والفضة‏,‏ ويعلنون أنهم لن يعودوا إلا بعد آخر نقطة بترول‏..‏ رأيتهم يبنون قصورا لم يدخلوها فتحولت إلي قبور من رخام بارد‏.‏

عشت بالقرب من رجال اعتادوا العيش بدون عائلاتهم‏,‏ معتقدين أنهم يوفرون لهم مستقبلا أفضل‏,‏ في حين أنهم يرسمون لهم النهايات الحزينة‏.‏ رأيتهم يعودون بعد سنوات غياب طويلة فلا يستطيعون العيش في القاهرة الساحرة‏,‏ معتقدين أن مفاتيح الذهب يمكن أن تفتح لهم أبواب تلك المدينة العريقة‏,‏ دون وعي منهم بأن جذورهم تآكلت‏,‏ وكما تمردت نفوسهم علي بلادهم‏,‏ تمردت هي الأخري عليهم فعاقبتهم بالجفاء وبالقسوة‏.‏

سيدي‏..‏ لا أعرف تحديدا هل علي أن أتحدث إليك‏.‏ وأنت تعرف الآن ـ بألمك ووحدتك ـ مقدار أخطائك في حق نفسك وحق أسرتك‏,‏ منذ قرارك بالسفر ولم تكن في حاجة إليه‏..‏ ومنذ استمتاعك بوحدتك‏,‏ وعدم عودتك مع أبنائك حتي ترعاهم وتحتضنهم في صدرك‏..‏ منذ طمعك في الدنيا‏.‏


هل أتحدث إليك‏,‏ أم أتحدث إلي هؤلاء‏,‏ الغارقين في الغفلة‏,‏ الناعمين في أموال الخليج‏,‏ دونما يدرون ما هو حال أبنائهم بعيدا عنهم؟‏..‏ هل أفزعهم بحكايتك؟‏..‏ هل أصدمهم بحكايات الانحراف التي تحاصر بريدي من الأبناء والزوجات وحكايات الاكتئاب والأمراض النفسية وتأخر زواج البنات بسبب صعوبة تكيفهم مع المجتمع؟

نعم من حق كل إنسان أن يسعي نحو رزقه‏,‏ أن يحسن وضعه المادي‏.‏ بشرط ألا ينسي الهدف الرئيسي من غربته‏,‏ ألا تغريه القصور فيطيل الغياب ويزيد الجفوة والقسوة بينه وبين عائلته‏.‏ فإما أن يبقي عليها معه في غربته تحت عينيه وفي قلبه‏,‏ وإما أن يكتفي بما حققه ويعود إلي حضن وطنه فهو أحن عليه مهما كانت قسوته‏.‏

سيدي‏..‏ مأساتك كاشفة‏..‏ ولكن دعني ألفت انتباهك إلي أن زوجتك وابنتك في حاجة إليك‏,‏ فأنت السبب فيما وصلا إليه‏,‏ وعليك أن تستعيد نفسك‏,‏ لتعيدهما إلي الحياة‏,‏ قد تفشل بمفردك وتحتاج الآن إلي مساعدة من طبيب نفسي وبعض أهل الخبرة‏,‏ فالبكاء علي اللبن المسكوب لن يجدي الآن‏,‏ أما ابنك فإني أدعو الله معك أن يقرأ رسالتك أو يخبره بها أحد قراء الأهرام‏,‏ فيرق قلبه‏,‏ ويتذكر أن الله أوصانا بالوالدين مهما كانت أخطاؤهما‏,‏ وهو الآن أحوج ما يكون إلي دعائك ورضاك‏,‏ ليته يتصل بك ليريح قلبك ويطمئنك عليه‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.