بـريــد الأهــرام
أكتب إليك وأنا لا أعرف كم تبقي لي من العمر, فقد وهنت, وهنت علي كل من حولي, ولكني أستحق كل ما يحدث لي, وأدعو الله أن يغفر لي, ويحقق أمنيتي الأخيرة قبل أن أري وجهه الكريم, وأتمني أن تصبح قصتي هذه صدقة جارية, يستفيد منها كل إنسان يعيش الآن ما عشته سابقا, فيتدبر حياته, ويقفز من مركب الغفلة قبل فوات الوقت.
سيدي.. دعني أبدأ لك الحكاية, منذ ما يزيد علي40 عاما.. كنت شابا يافعا, من الأوائل علي كليتي العملية, كل أسرتي تفخر بي, ويراني والدي ثمرة كفاحه التي كافأه الله بها, لذا فقد كان يدللني ويغدق علي بعطائه المادي والمعنوي, عملت بوظيفة مرموقة, وحققت نجاحا باهرا جعلني أترقي بسرعة شديدة في عملي, مما جعلني مطمعا لأسر وفتيات عديدات. وحتي لا أطيل ـ فمحطات حياتي طويلة ومتعددة ـ تزوجت من فتاة جميلة, من أسرة طيبة, وبدأت حياتي تسير نحو الإستقرار والسعادة.
منحتني الأقدار كل شيء جميل, فازدادت ثقة بنفسي, بل قل غرورا, معتقدا أن كل ما أنا فيه بسبب ذكائي وقدراتي الفذة.. كنت أستمتع بنظرات الرضي والمباهات التي تطل من عيني زوجتي, كلما إلتقينا مع أحد.
إتفقت مع زوجتي علي تأجيل الإنجاب, حتي أتفرغ قليلا لعملي ودراساتي, فاستجابت وتحملت لمدة عامين, حتي وجدتها ذات يوم تبكي وحيدة في غرفتها, وبعد ضغط مني وإلحاح, عرفت أن سبب دموعها هو إشتياقها إلي الإنجاب, فاحترمت رغبتها, وتركنا أنفسنا للأقدار, ولم يمض وقت طويل حتي رزقنا الله بطفل جميل, وقبل مرور عامين جاءت أيضا إبنتي وقرة عيني.
هكذا كنت رجلا ناجحا مستقرا, وكنا أسرة سعيدة هانئة لم يكن ينقصنا شيء حتي أقبل العرض الذي قدم لي.. شركة عالمية افتتحت فرعا لها في إحدي دول الخليج في بداية السبعينيات, تطلبني للعمل هناك بمقابل مادي مبهر. وافقت علي الفور, علي الرغم من رفض زوجتي, ومحاولاتها المتكررة لإثنائي عن ذلك, حتي أنها لجأت إلي والدي, الذي رجاني ألا أسافر, وأحافظ علي نجاحي في بلدي, ولكني أصررت علي موقفي, وسافرت قبل أسرتي, حيث أعددت الفيلا التي ستقيم فيها ثم حضروا وبدأنا حياة جديدة.. حياة أكثر هدوءا, أكثر أموالا, لكنها أيضا أكثر جفاء.
إزدادت ثروتي, وبدأت في شراء أراض في مصر, بنيت عمارة في أرقي ضواحي القاهرة, وفيلا في ضاحية أخري, ولم نكن نستمتع بأي منهما إلا في أيام قليلة, هي أيام الاجازات المصيفية.
كبر الأبناء, وحصل إبني علي الثانوية في نهاية الثمانينيات, وإلتحق بكلية في القاهرة, ولكن إبنتي الصغيرة مازالت في الصف الأول الثانوي, فماذا نفعل؟
إقترحت زوجتي أن نكتفي بما حققناه ونعود إلي مصر, ولكني كنت أدمنت نمط الحياة في هذه المدينة, فأرسلنا الولد ليكمل دراسته ويقيم عند جده حتي نلحق به بعد أن تنتهي شقيقته من الحصول علي الثانوية العامة, أصيب إبني بصدمة في البداية وتعرض لأزمات نفسية عديدة بسبب إختلاف السلوكيات, حتي أنه كان يستغيث بي ويرجوني أن يعود إلينا. ولكن بعد عام واحد, بدأ جده هو الذي يشكو من غيابه المتكرر عن البيت, فكنت أتصل به وأوبخه, فيعدني بالإلتزام.
بعد عامين تكرر الموقف وكان علي ابنتي أن تعود إلي القاهرة لدخول الجامعة, وبعد حوارات مطولة, طلبت من زوجتي أن تنزل معها لتنظيم حياتهما, ثم نحدد هل تتركهما وتعود لي, أم أعود أنا في زيارات إليهم.
كانت فكرة عودتي مستبعدة تماما عن ذهني, لقد أصبحت جزءا من هذا المجتمع, أشعر بغربة شديدة في مصر.. في الأسابيع القليلة التي كنت أقضيها أجد نفسي عصبيا مستفزا من سلوكيات البشر, ملامحهم أصبحت تغضبني, حتي طعم الشاي والطعام أصبح غريبا علي.
بعد نزول زوجتي وابنتي, شعرت بسعادة غريبة, أحسست أني حر, غيرت نمط حياتي, وأصبحت أكثر إنطلاقا, خاصة أن البلد الذي أقيم فيه أصبح أكثر إنفتاحا وبهجة, فعدت أكثر شبابا وحيوية. وقررت إقناع زوجتي بألا تعود علي أن أسافر إليهم كل6 أشهر وبمبررات مختلفة استجابت زوجتي.
إعتدت بعد شهور قليلة علي إستغاثات زوجتي, إبنك تغير, مصاحب أولاد فاسدين, بدأ يشرب سجائر, بنات كثيرة تتصل به, تزوره في البيت, خلاص تعبت معاه, تعال اتصرف معاه كنت أكتفي بالاتصال به, مهددا مرة, وواعدا مرة أخري. مهددا بسحب السيارة أو منع المصروف, وواعدا بمزيد من الهدايا والمزايا إذا أراح أمه وجعلها لا تشكو.
الحقيقة التي لابد أن أعترف بها الآن أني كنت غارقا في أنانيتي, في استمتاعي بمباهج لا تليق ولا تحق لي, وكل ما أتمناه أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم.
في العام الأخير بالجامعة سقط ابني, وأخبرتني والدته أنه يشرب المخدرات والخمور, وعندما واجهته, انفجر فيها وتجاوز في الكلام بل ـ كما قالت لي ـ كاد يمد يده عليها. في هذه المرة شعرت بالخطر, فحصلت علي اجازة من عملي وعدت مسرعا إلي مصر..
وجدت أبنتي مكتئبة, منزوية, صامتة, لم أشعر بدفء حضنها, وكذلك زوجتي أصبحت بعيدة عني, روحها في واد آخر. أما ابني فكأني لا أعرفه, لغته غريبة, نظراته زائفة مخيفة جلست أياما, أضع ضوابطا لما هو قادم, قلت لهم ـ كاذبا ـ إني أعيش هناك وحيدا متألما من أجلهم, لأني أريد لهم حياة أفضل, لا أحب أن يعانوا أو يتعذبوا في المستقبل. ألقيت بنصائحي وهربت بجلدي إلي عالمي مرة أخري. مالي أنا وهذا العذاب, أيام مراهقة ستمر علي إبني وتنتهي.
ملت زوجتي من الكلام, اعتادت علي غيابي, واعتدت علي حالي تخرج الولد في الجامعة وأصبح أكثر غيابا وعنفا, حتي إنه أصبح يبيت كثيرا خارج البيت, ولم تعد أمه تحكي لي ولم أعد أسأل!
بعد عامين من تخرجه, أفقت علي صراخ زوجتي في التليفون الحقني, انزل فورا, ابنك, صحيت من النوم, لقيت بنت معاه بايتة في حجرته, ومعاهم حقن وسجائر, أنا خلاص حسيب البيت وأطفش
صدمة هزتني, شعرت بأن كل حياتي تنهار, كان علي أن أتخذ قرارا سريعا, كان قراري أن أحضر ابني ليعيش معي, أوفر له عملا هنا ليبدأ حياته بعيدا عن تلك الأجواء. أخبرت زوجتي بقراري, ففرحت به, لأنها هي الأخري ألفت الحياة بدوني, ولم تعد تلح علي في العودة, وهذا الأمر كان يسعدني كثيرا, وأحمد الله علي عقلها.
خلال أيام أنهيت اجراءات التأشيرة, وأرسلت التذكرة إلي ابني, بعد أن اتفقت معه علي أن يأتي لفترة قصيرة يستريح ويجرب الحياة هنا. فإما أن يستمر أو يعود, حسب رغبته.
جاء ابني وبدأت في انهاء اجراءات الاقامة, من ضمن هذه الاجراءات يا سيدي ـ بعض الكشوف والتحاليل الطبية, من بينها تحليل الايدز. أعتقد أنك تصورت ماذا حدث؟
ابني, عمري, مصاب بالايدز, ليس مهما كيف ومتي, المهم أن المصيبة وقعت, استدعاءات, وقرارات صارمة.. الترحيل الفوري.
لا أعرف ماذا حدث ولا كيف تصرفت, كان علي أن أغادر مع ابني, وحيدي الذي انهار, وأصيب بحالة هيستيرية.
عدنا إلي القاهرة, بمصيبة الموت أهون منها.. انهارت زوجتي, انطفأت روحي, وعاش ابني أياما سوداء في اجراءات واستدعاءات في مصر كان ينظر إلي, كنت أخجل من النظر إليه.
تحولت الفيلا إلي قبر, زوجتي أصبحت شبحا, عيناها تتهماني, تكرهني, ابنتي خاصمتني, أما ابني. فقد حاولت أن أتحدث إليه لأطمئنه بأني سأظل معه وسنبحث عن علاج, فهو حامل للفيرس وليس مصابا به, فثار في وجهي وقال لي: لا تتحدث معي. عليك أن تصمت إلي الأبد صمت ولم أتحدث حتي الآن. منذ5 سنوات يا سيدي استيقظت من النوم, فلم أجد ابني, وجدت رسالة في يد أمه الغارقة في دموعها, قالت لي: مبروك, ارتح وأكمل حياتك, ابنك ساب لك البلد وسافر.
سافر ابني إلي الخارج لا أعرف كيف, اختار منفاه, وتركني معذبا, الأمراض لاحقت زوجتي, وابنتي لم تتزوج حتي الآن, تعمل طبيبة في احد المستشفيات تكاد تقاطعنا, وإذا تحدثت كان كلامها صراخا في وجوهنا, أما أنا فأعيش وحيدا, مترددا علي المساجد, أبكي وأنا ساجد أدعو الله أن يغفر لي ويرحم ابني وابنتي وزوجتي.. أخطأت في حقهم جميعا, نادم علي كل ما فات.. قرار خاطيء في بداية حياتي أدي بنا إلي هذه الهاوية.
سيدي.. كل ما أدعو الله به, وأتمني أن يستجيب لي, أن يقرأ ابني كلماتي ـ إذا كان حيا ـ ويرحم شيخوختي ويطمئني عليه, يكلمني مرة واحدة, يقول لي إنه سامحني, هذا هو كل حلمي الآن, فهل يتحقق؟!
سيدي.. أفهم جيدا كلماتك, وأتمني أن يفهمها كل من يتعامل مع الحياة مثلما تعاملت معها. عشت مثلك سنوات في الخليج ـ وإن كانت فترة محدودة ـ ورأيت الذين يكنزون الذهب والفضة, ويعلنون أنهم لن يعودوا إلا بعد آخر نقطة بترول.. رأيتهم يبنون قصورا لم يدخلوها فتحولت إلي قبور من رخام بارد.
عشت بالقرب من رجال اعتادوا العيش بدون عائلاتهم, معتقدين أنهم يوفرون لهم مستقبلا أفضل, في حين أنهم يرسمون لهم النهايات الحزينة. رأيتهم يعودون بعد سنوات غياب طويلة فلا يستطيعون العيش في القاهرة الساحرة, معتقدين أن مفاتيح الذهب يمكن أن تفتح لهم أبواب تلك المدينة العريقة, دون وعي منهم بأن جذورهم تآكلت, وكما تمردت نفوسهم علي بلادهم, تمردت هي الأخري عليهم فعاقبتهم بالجفاء وبالقسوة.
سيدي.. لا أعرف تحديدا هل علي أن أتحدث إليك. وأنت تعرف الآن ـ بألمك ووحدتك ـ مقدار أخطائك في حق نفسك وحق أسرتك, منذ قرارك بالسفر ولم تكن في حاجة إليه.. ومنذ استمتاعك بوحدتك, وعدم عودتك مع أبنائك حتي ترعاهم وتحتضنهم في صدرك.. منذ طمعك في الدنيا.
هل أتحدث إليك, أم أتحدث إلي هؤلاء, الغارقين في الغفلة, الناعمين في أموال الخليج, دونما يدرون ما هو حال أبنائهم بعيدا عنهم؟.. هل أفزعهم بحكايتك؟.. هل أصدمهم بحكايات الانحراف التي تحاصر بريدي من الأبناء والزوجات وحكايات الاكتئاب والأمراض النفسية وتأخر زواج البنات بسبب صعوبة تكيفهم مع المجتمع؟
نعم من حق كل إنسان أن يسعي نحو رزقه, أن يحسن وضعه المادي. بشرط ألا ينسي الهدف الرئيسي من غربته, ألا تغريه القصور فيطيل الغياب ويزيد الجفوة والقسوة بينه وبين عائلته. فإما أن يبقي عليها معه في غربته تحت عينيه وفي قلبه, وإما أن يكتفي بما حققه ويعود إلي حضن وطنه فهو أحن عليه مهما كانت قسوته.
سيدي.. مأساتك كاشفة.. ولكن دعني ألفت انتباهك إلي أن زوجتك وابنتك في حاجة إليك, فأنت السبب فيما وصلا إليه, وعليك أن تستعيد نفسك, لتعيدهما إلي الحياة, قد تفشل بمفردك وتحتاج الآن إلي مساعدة من طبيب نفسي وبعض أهل الخبرة, فالبكاء علي اللبن المسكوب لن يجدي الآن, أما ابنك فإني أدعو الله معك أن يقرأ رسالتك أو يخبره بها أحد قراء الأهرام, فيرق قلبه, ويتذكر أن الله أوصانا بالوالدين مهما كانت أخطاؤهما, وهو الآن أحوج ما يكون إلي دعائك ورضاك, ليته يتصل بك ليريح قلبك ويطمئنك عليه.. وإلي لقاء بإذن الله.
أكتب إليك وأنا لا أعرف كم تبقي لي من العمر, فقد وهنت, وهنت علي كل من حولي, ولكني أستحق كل ما يحدث لي, وأدعو الله أن يغفر لي, ويحقق أمنيتي الأخيرة قبل أن أري وجهه الكريم, وأتمني أن تصبح قصتي هذه صدقة جارية, يستفيد منها كل إنسان يعيش الآن ما عشته سابقا, فيتدبر حياته, ويقفز من مركب الغفلة قبل فوات الوقت.
سيدي.. دعني أبدأ لك الحكاية, منذ ما يزيد علي40 عاما.. كنت شابا يافعا, من الأوائل علي كليتي العملية, كل أسرتي تفخر بي, ويراني والدي ثمرة كفاحه التي كافأه الله بها, لذا فقد كان يدللني ويغدق علي بعطائه المادي والمعنوي, عملت بوظيفة مرموقة, وحققت نجاحا باهرا جعلني أترقي بسرعة شديدة في عملي, مما جعلني مطمعا لأسر وفتيات عديدات. وحتي لا أطيل ـ فمحطات حياتي طويلة ومتعددة ـ تزوجت من فتاة جميلة, من أسرة طيبة, وبدأت حياتي تسير نحو الإستقرار والسعادة.
منحتني الأقدار كل شيء جميل, فازدادت ثقة بنفسي, بل قل غرورا, معتقدا أن كل ما أنا فيه بسبب ذكائي وقدراتي الفذة.. كنت أستمتع بنظرات الرضي والمباهات التي تطل من عيني زوجتي, كلما إلتقينا مع أحد.
إتفقت مع زوجتي علي تأجيل الإنجاب, حتي أتفرغ قليلا لعملي ودراساتي, فاستجابت وتحملت لمدة عامين, حتي وجدتها ذات يوم تبكي وحيدة في غرفتها, وبعد ضغط مني وإلحاح, عرفت أن سبب دموعها هو إشتياقها إلي الإنجاب, فاحترمت رغبتها, وتركنا أنفسنا للأقدار, ولم يمض وقت طويل حتي رزقنا الله بطفل جميل, وقبل مرور عامين جاءت أيضا إبنتي وقرة عيني.
هكذا كنت رجلا ناجحا مستقرا, وكنا أسرة سعيدة هانئة لم يكن ينقصنا شيء حتي أقبل العرض الذي قدم لي.. شركة عالمية افتتحت فرعا لها في إحدي دول الخليج في بداية السبعينيات, تطلبني للعمل هناك بمقابل مادي مبهر. وافقت علي الفور, علي الرغم من رفض زوجتي, ومحاولاتها المتكررة لإثنائي عن ذلك, حتي أنها لجأت إلي والدي, الذي رجاني ألا أسافر, وأحافظ علي نجاحي في بلدي, ولكني أصررت علي موقفي, وسافرت قبل أسرتي, حيث أعددت الفيلا التي ستقيم فيها ثم حضروا وبدأنا حياة جديدة.. حياة أكثر هدوءا, أكثر أموالا, لكنها أيضا أكثر جفاء.
إزدادت ثروتي, وبدأت في شراء أراض في مصر, بنيت عمارة في أرقي ضواحي القاهرة, وفيلا في ضاحية أخري, ولم نكن نستمتع بأي منهما إلا في أيام قليلة, هي أيام الاجازات المصيفية.
كبر الأبناء, وحصل إبني علي الثانوية في نهاية الثمانينيات, وإلتحق بكلية في القاهرة, ولكن إبنتي الصغيرة مازالت في الصف الأول الثانوي, فماذا نفعل؟
إقترحت زوجتي أن نكتفي بما حققناه ونعود إلي مصر, ولكني كنت أدمنت نمط الحياة في هذه المدينة, فأرسلنا الولد ليكمل دراسته ويقيم عند جده حتي نلحق به بعد أن تنتهي شقيقته من الحصول علي الثانوية العامة, أصيب إبني بصدمة في البداية وتعرض لأزمات نفسية عديدة بسبب إختلاف السلوكيات, حتي أنه كان يستغيث بي ويرجوني أن يعود إلينا. ولكن بعد عام واحد, بدأ جده هو الذي يشكو من غيابه المتكرر عن البيت, فكنت أتصل به وأوبخه, فيعدني بالإلتزام.
بعد عامين تكرر الموقف وكان علي ابنتي أن تعود إلي القاهرة لدخول الجامعة, وبعد حوارات مطولة, طلبت من زوجتي أن تنزل معها لتنظيم حياتهما, ثم نحدد هل تتركهما وتعود لي, أم أعود أنا في زيارات إليهم.
كانت فكرة عودتي مستبعدة تماما عن ذهني, لقد أصبحت جزءا من هذا المجتمع, أشعر بغربة شديدة في مصر.. في الأسابيع القليلة التي كنت أقضيها أجد نفسي عصبيا مستفزا من سلوكيات البشر, ملامحهم أصبحت تغضبني, حتي طعم الشاي والطعام أصبح غريبا علي.
بعد نزول زوجتي وابنتي, شعرت بسعادة غريبة, أحسست أني حر, غيرت نمط حياتي, وأصبحت أكثر إنطلاقا, خاصة أن البلد الذي أقيم فيه أصبح أكثر إنفتاحا وبهجة, فعدت أكثر شبابا وحيوية. وقررت إقناع زوجتي بألا تعود علي أن أسافر إليهم كل6 أشهر وبمبررات مختلفة استجابت زوجتي.
إعتدت بعد شهور قليلة علي إستغاثات زوجتي, إبنك تغير, مصاحب أولاد فاسدين, بدأ يشرب سجائر, بنات كثيرة تتصل به, تزوره في البيت, خلاص تعبت معاه, تعال اتصرف معاه كنت أكتفي بالاتصال به, مهددا مرة, وواعدا مرة أخري. مهددا بسحب السيارة أو منع المصروف, وواعدا بمزيد من الهدايا والمزايا إذا أراح أمه وجعلها لا تشكو.
الحقيقة التي لابد أن أعترف بها الآن أني كنت غارقا في أنانيتي, في استمتاعي بمباهج لا تليق ولا تحق لي, وكل ما أتمناه أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم.
في العام الأخير بالجامعة سقط ابني, وأخبرتني والدته أنه يشرب المخدرات والخمور, وعندما واجهته, انفجر فيها وتجاوز في الكلام بل ـ كما قالت لي ـ كاد يمد يده عليها. في هذه المرة شعرت بالخطر, فحصلت علي اجازة من عملي وعدت مسرعا إلي مصر..
وجدت أبنتي مكتئبة, منزوية, صامتة, لم أشعر بدفء حضنها, وكذلك زوجتي أصبحت بعيدة عني, روحها في واد آخر. أما ابني فكأني لا أعرفه, لغته غريبة, نظراته زائفة مخيفة جلست أياما, أضع ضوابطا لما هو قادم, قلت لهم ـ كاذبا ـ إني أعيش هناك وحيدا متألما من أجلهم, لأني أريد لهم حياة أفضل, لا أحب أن يعانوا أو يتعذبوا في المستقبل. ألقيت بنصائحي وهربت بجلدي إلي عالمي مرة أخري. مالي أنا وهذا العذاب, أيام مراهقة ستمر علي إبني وتنتهي.
ملت زوجتي من الكلام, اعتادت علي غيابي, واعتدت علي حالي تخرج الولد في الجامعة وأصبح أكثر غيابا وعنفا, حتي إنه أصبح يبيت كثيرا خارج البيت, ولم تعد أمه تحكي لي ولم أعد أسأل!
بعد عامين من تخرجه, أفقت علي صراخ زوجتي في التليفون الحقني, انزل فورا, ابنك, صحيت من النوم, لقيت بنت معاه بايتة في حجرته, ومعاهم حقن وسجائر, أنا خلاص حسيب البيت وأطفش
صدمة هزتني, شعرت بأن كل حياتي تنهار, كان علي أن أتخذ قرارا سريعا, كان قراري أن أحضر ابني ليعيش معي, أوفر له عملا هنا ليبدأ حياته بعيدا عن تلك الأجواء. أخبرت زوجتي بقراري, ففرحت به, لأنها هي الأخري ألفت الحياة بدوني, ولم تعد تلح علي في العودة, وهذا الأمر كان يسعدني كثيرا, وأحمد الله علي عقلها.
خلال أيام أنهيت اجراءات التأشيرة, وأرسلت التذكرة إلي ابني, بعد أن اتفقت معه علي أن يأتي لفترة قصيرة يستريح ويجرب الحياة هنا. فإما أن يستمر أو يعود, حسب رغبته.
جاء ابني وبدأت في انهاء اجراءات الاقامة, من ضمن هذه الاجراءات يا سيدي ـ بعض الكشوف والتحاليل الطبية, من بينها تحليل الايدز. أعتقد أنك تصورت ماذا حدث؟
ابني, عمري, مصاب بالايدز, ليس مهما كيف ومتي, المهم أن المصيبة وقعت, استدعاءات, وقرارات صارمة.. الترحيل الفوري.
لا أعرف ماذا حدث ولا كيف تصرفت, كان علي أن أغادر مع ابني, وحيدي الذي انهار, وأصيب بحالة هيستيرية.
عدنا إلي القاهرة, بمصيبة الموت أهون منها.. انهارت زوجتي, انطفأت روحي, وعاش ابني أياما سوداء في اجراءات واستدعاءات في مصر كان ينظر إلي, كنت أخجل من النظر إليه.
تحولت الفيلا إلي قبر, زوجتي أصبحت شبحا, عيناها تتهماني, تكرهني, ابنتي خاصمتني, أما ابني. فقد حاولت أن أتحدث إليه لأطمئنه بأني سأظل معه وسنبحث عن علاج, فهو حامل للفيرس وليس مصابا به, فثار في وجهي وقال لي: لا تتحدث معي. عليك أن تصمت إلي الأبد صمت ولم أتحدث حتي الآن. منذ5 سنوات يا سيدي استيقظت من النوم, فلم أجد ابني, وجدت رسالة في يد أمه الغارقة في دموعها, قالت لي: مبروك, ارتح وأكمل حياتك, ابنك ساب لك البلد وسافر.
سافر ابني إلي الخارج لا أعرف كيف, اختار منفاه, وتركني معذبا, الأمراض لاحقت زوجتي, وابنتي لم تتزوج حتي الآن, تعمل طبيبة في احد المستشفيات تكاد تقاطعنا, وإذا تحدثت كان كلامها صراخا في وجوهنا, أما أنا فأعيش وحيدا, مترددا علي المساجد, أبكي وأنا ساجد أدعو الله أن يغفر لي ويرحم ابني وابنتي وزوجتي.. أخطأت في حقهم جميعا, نادم علي كل ما فات.. قرار خاطيء في بداية حياتي أدي بنا إلي هذه الهاوية.
سيدي.. كل ما أدعو الله به, وأتمني أن يستجيب لي, أن يقرأ ابني كلماتي ـ إذا كان حيا ـ ويرحم شيخوختي ويطمئني عليه, يكلمني مرة واحدة, يقول لي إنه سامحني, هذا هو كل حلمي الآن, فهل يتحقق؟!
سيدي.. أفهم جيدا كلماتك, وأتمني أن يفهمها كل من يتعامل مع الحياة مثلما تعاملت معها. عشت مثلك سنوات في الخليج ـ وإن كانت فترة محدودة ـ ورأيت الذين يكنزون الذهب والفضة, ويعلنون أنهم لن يعودوا إلا بعد آخر نقطة بترول.. رأيتهم يبنون قصورا لم يدخلوها فتحولت إلي قبور من رخام بارد.
عشت بالقرب من رجال اعتادوا العيش بدون عائلاتهم, معتقدين أنهم يوفرون لهم مستقبلا أفضل, في حين أنهم يرسمون لهم النهايات الحزينة. رأيتهم يعودون بعد سنوات غياب طويلة فلا يستطيعون العيش في القاهرة الساحرة, معتقدين أن مفاتيح الذهب يمكن أن تفتح لهم أبواب تلك المدينة العريقة, دون وعي منهم بأن جذورهم تآكلت, وكما تمردت نفوسهم علي بلادهم, تمردت هي الأخري عليهم فعاقبتهم بالجفاء وبالقسوة.
سيدي.. لا أعرف تحديدا هل علي أن أتحدث إليك. وأنت تعرف الآن ـ بألمك ووحدتك ـ مقدار أخطائك في حق نفسك وحق أسرتك, منذ قرارك بالسفر ولم تكن في حاجة إليه.. ومنذ استمتاعك بوحدتك, وعدم عودتك مع أبنائك حتي ترعاهم وتحتضنهم في صدرك.. منذ طمعك في الدنيا.
هل أتحدث إليك, أم أتحدث إلي هؤلاء, الغارقين في الغفلة, الناعمين في أموال الخليج, دونما يدرون ما هو حال أبنائهم بعيدا عنهم؟.. هل أفزعهم بحكايتك؟.. هل أصدمهم بحكايات الانحراف التي تحاصر بريدي من الأبناء والزوجات وحكايات الاكتئاب والأمراض النفسية وتأخر زواج البنات بسبب صعوبة تكيفهم مع المجتمع؟
نعم من حق كل إنسان أن يسعي نحو رزقه, أن يحسن وضعه المادي. بشرط ألا ينسي الهدف الرئيسي من غربته, ألا تغريه القصور فيطيل الغياب ويزيد الجفوة والقسوة بينه وبين عائلته. فإما أن يبقي عليها معه في غربته تحت عينيه وفي قلبه, وإما أن يكتفي بما حققه ويعود إلي حضن وطنه فهو أحن عليه مهما كانت قسوته.
سيدي.. مأساتك كاشفة.. ولكن دعني ألفت انتباهك إلي أن زوجتك وابنتك في حاجة إليك, فأنت السبب فيما وصلا إليه, وعليك أن تستعيد نفسك, لتعيدهما إلي الحياة, قد تفشل بمفردك وتحتاج الآن إلي مساعدة من طبيب نفسي وبعض أهل الخبرة, فالبكاء علي اللبن المسكوب لن يجدي الآن, أما ابنك فإني أدعو الله معك أن يقرأ رسالتك أو يخبره بها أحد قراء الأهرام, فيرق قلبه, ويتذكر أن الله أوصانا بالوالدين مهما كانت أخطاؤهما, وهو الآن أحوج ما يكون إلي دعائك ورضاك, ليته يتصل بك ليريح قلبك ويطمئنك عليه.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.