بريد الاهرام
مررت بكرب عظيم وتجربة قاسية تكاد في تتابع أحداثها تفوق الخيال.. فلقد عشت طفولة معذبة بمعني الكلمة.. قسوة في البيت وتعذيبا في المدرسة, وكان ذلك بشكل متواصل وبالأخص في المرحلة الابتدائية, ابتلانا القدر باستاذين في غاية القسوة وكنت أنال ورفاقي الذين لا يأخذون دروس تقوية عندهما في ذلك الحين أوفر الحظ من قسوتهم وبطشهم لأهون الأسباب, فمثلا إذا حدث وأخطأ أحدنا في الاجابة أو نظر بجانبه نزل بنا أشد العذاب فلا نزال نضرب بالعصا حتي تتورم أيدينا وتصبح مثل البلون المصبوغ باللون الأزرق والأخضر والبنفسجي لدرجة أن بعضنا كان يصاب بشرخ في كف يده فيتم وضعها في الجبس لعدة أسابيع
ولقد تسبب هذان الاستاذان في إرهابنا وافزاعنا بشكل لم يسبق له مثيل لدرجة أنه بمجرد دخول أحد الاستاذين الفصل كانت ترتطم اسناننا ببعضها البعض وترتعش أبداننا الصغيرة وكأنهم نقلونا فجأة إلي أحد القطبين.
وكان بعض الأطفال منا في ذلك الوقت عندما يصيح فيه أحد الاستاذين بأعلي صوته ويأمره بأن يخرج علي السبورة لكي ينال عقابه الأليم كان الكثير منا من شدة الخوف والفزع يتبول علي نفسه قبل أن يخرج إلي السبورة وكذلك كانت تتجمد أرجلنا ولا نستطيع المشي إلي السبورة في هذه اللحظة نعم والله ياسيدي كنا نصاب بالشلل المؤقت في أقدامنا من شدة الخوف
أما أنا فكنت متماسكا بطبعي ولدي رباطة جأش ليس لها نظير فعندما كنت أخرج علي السبورة لكي أنال جزائي ويأمرني بفتح يدي ويرفع الخرزانة ليهوي بها علي كلتا يدي بلا رحمة سرعان ما تتبدل مشاعر الثبات عندي ويذهب عني ذلك التماسك فأجد نفسي فجأة أبول واتبرز في وقت قياسي وبسرعة مذهلة, وهكذا كانت تلك المرحلة شديدة القسوة مما أصابنا بالخوف والارتباك وعدم التركيز أثناء الحصص الدراسية وكل ما نركز فيه هو هل سيضربني الاستاذ أم لا وهل سأتحمل الضرب أم لا وهل سأفعلها اثناء الضرب كما هي عادتي أم لا؟ ولذلك كانت فصول هذين الاستاذين لها رائحة اشبه برائحة المراحيض, وهكذا مضت مرحلة الطفولة المشوهة وعندما وصلت إلي نهاية مرحلة الثانوية توفي والدي رحمه الله فهو الذي غرس في نفسي التدين وحب الخير وكانت وفاة والدي بمثابة الصدمة الحقيقية في حياتي.
وبطبيعة الحال تبدلت الأمور بوفاة والدي الذي ترك لي تحمل المسئولية بشكل مفاجيء وبدون مقدمات, فوجدتني مضطرا لأن أترك حلم إتمام الدراسة واتجهت للعمل لكي أدبر النفقات المهمة لي ولأسرتي الصغيرة والدتي وأخي الصغير حتي وصلت إلي عامي الـ21 وفي عام1993 حدث تحول خطير في حياتي وهو أني تعرفت علي احدي الجماعات المتطرفة وليتني ما فعلت.. ولكنها الأقدار التي تدفعني إلي المحنة الثالثة في حياتي وهو أنه تم اعتقالي معهم منذ93 إلي2006 أي ظللت خلف القضبان14 عاما, وإليك يا سيدي أهم الأحداث التي مررت بها في تلك الفترة الصعبة جدا في حياتي وفي حياة أسرتي أيضا.
فلقد ترك أخي الدراسة ليتحمل المسئولية مكاني ومرضت والدتي ببعض الأمراض المزمنة ولقد وقف الجميع معي في هذه المحنة وقد ألهمني سبحانه بأن أتحمل أقداري وأصبر عليها حتي أري نور الحرية الذي لا أعرف موعده ولقد سمح لنا المسئولون جزاهم الله خيرا بالدراسة داخل المعتقل, وبالفعل بدأت من مرحلة الثانوية العامة وأنهيتها بمجموع يؤهلني لدخول كلية الحقوق ولا أنسي هنا والدتي التي لا تعرف القراءة والكتابة وقد وقفت بجانبي وكانت تذهب إلي الجامعة فتحضر لي الملازم والكتب وكان يساعدها في ذلك بعض الطالبات والطلبة وكانوا يكتبون لي المقرر والملغي والمهم ولذلك أنا أشكرهم علي ذلك العمل النبيل وأدعو لهم دائما مع أني لم أرهم ولم يروني
وكانت والدتي دائمة الدعاء لي بالتوفيق وبالنجاة مما أنا فيه, وعندما تأتي لزيارتي كنت أضمها إلي صدري وأدعوا لها وأبشرها بأن فرج الله قريب وكنت أجهز لها بعض الهدايا البسيطة حتي أهون عليها ولو بعض الشيء مما هي فيه من محن متعاقبة, وكانت دائما تصبرني وتقوللي اعتبر نفسك في منحة دراسية وستنتهي منها قريبا إن شاء الله, وبصراحة شديدة كنت في بعض الأوقات يشتد علي الشعور بالألم والحزن مما أنا فيه من حال صعب فكان الله سبحانه يتلطف بنفسي فيرسل إلي رحمة من رحماته ويريني في منامي أكثر من مرة حبيبي وسيدي محمد صلي الله عليه وسلم وكنت أراه مشرقا كالقمر باسما بشوشا وكانت رؤيتي له مثل الغيث وأستبشر بها ويزول بعدها عني كل شعور بالألم وأشعر بعدها بالسعادة والاطمئنان
ولولا رحمة ربي لوقع قلبي في مهاوي اليأس وكنت مستبشرا بقرب الفرج مع أن آخر أيام هذه المحنة كانت تمر علي بصعوبة بالغة ولكن الله ربط علي قلبي برباط الرضا وألهمني كثرة الذكر والاستغفار والصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم وقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وكنت أشعر أن ربي سبحانه يعينني علي كثرة الذكر بطريقة أنا نفسي تعجبت منها وفي أثناء هذه الأيام أيضا كتبت لك رسالتي هذه وعزمت علي تأجيلها كما ذكرت لك وكان ظني بالله تعالي خيرا والحمد لله سبحانه كان عز وجل أكثر إحسانا مما ظننت وأسبق إلي بالخير بأسرع مما كنت أتوقع..
ففي صباح آخر يوم في محنتي كنت أتجول في الصباح الباكر في ملعب السجن فإذا بي أري قطة تجري مذعورة أمامي من شدة الخوف ولم أعرف ما هو سبب فزعها هذا لأني التفت وراءها فلم أر شيئا يؤذيها أو يطاردها فتعجبت واقتربت منها وربت عليها وأخذت العب معها ليذهب عنها خوفها وكنت أقول أثناء ذلك بسم الله ثم بدأت تعود إلي طبيعتها وتستجيب للمداعبة حتي ذهب عنها ذلك الذعر فوجدتني أحدثها بصوت مسموع ولا يراني سوي الله سبحانه وتعالي وقلت لها لعل الله أرسلك إلي خائفة حتي أكون رحيما بك فيرحمني اليوم مما أنا فيه من البلاء بسببك
لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول الراحمون يرحمهم الرحمن وتركتها ومضيت إلي حال سبيلي.. فوالله ياسيدي ما مضي اليوم إلا ويأذن الله لي بالفرج وإذا بالشاويش ينادي علي اسمي ويبشرني زملائي بالإفراج عني, فأخر لله ساجدا أشكره علي هذه النعمة العظيمة وأجد لساني يلهج بحمده سبحانه وتعالي وهنأني الجميع من الضباط والمأمور والعساكر وسلمت علي الجميع ثم ودعتهم ثم فتحت الأبواب ووضعت قدمي خارج السجن ويخالجني شعور بالدهشة وأحيانا بالسعادة وأحيانا أخري أظن أنني أحلم ولكنني أيقنت أنني حر طليق أتنفس هواء الحرية وعبيرها واستقبلني الجميع واستقبلتني أمي الحبيبة الغالية ويسبقها دموع الفرح وتضمني بين ذراعيها.. وأول شيء كنت أفكر فيه هو البحث عن عمل وبدأت في الكتابة إليك حتي أكمل رسالتي بتلك الأحداث السعيدة ولكي أجد عبر بابك من يكون عونا لي في إيجاد عمل يناسبني ولكنني عزمت علي تأجيل إرسالها اليك, وذلك حتي لا أكون عبئا علي أحد وأردت أن أعتمد علي نفسي أولا في البحث عن عمل فإن لم أجد لجأت إلي باب بريد الجمعة حتي أجد من يستطيع أن يقف بجانبي لايجاد عمل استطيع أن أبدأ به حياتي الطبيعية.
ولكن للأسف كان هناك عائق أمامي منعني من الخروج من البيت للبحث عن عمل, وهو أنني لا يوجد لدي أي ملابس خروج أو حتي حذاء للخروج, وكان كل ما لدي عبارة عن جلابيب بيضاء قديمة كنت أستعملها أثناء الاعتقال لأنه لم يكن مسموحا بارتداء غيرها من الملابس ونظرا لضيق ذات اليد لم استطع أن أخرج للبحث عن عمل لمدة شهر تقريبا للسبب السابق, ولم يفطن إلي حالي أحد ولا يعلم بهذا الأمر غير والدتي وأخي اللذين أعيش معهما فاضطرت والدتي أن تهمس في أذن أخت لي متزوجة إن كان لدي زوجها ثياب قديمة تصلح لأن أرتديها لكي استطيع أن أخرج أبحث عن عمل بمظهر لائق ولو نسبيا, وبالفعل أرسلت لي أختي طاقمين وحذاءين وبدأت أخرج للبحث عن عمل وأخيرا وجدت عملا عن طريق مجلة الوسيط
ولكن كان أجره بسيطا جدا يكاد يكفيني للمواصلات والطعام الضروري جدا لدرجة أنني أثناء عملي في أحد الأيام لم أجد طعاما لي سوي الخبز والملح, ولا يعلم بذلك الأمر سوي الله سبحانه وأرجو يا سيدي ألا يفهم من كل كلامي السابق أني أستدر عطف أحد وشفقة أحد وإن كان حالي في حقيقة الأمر يدعو إلي الأسي والشفقة, ولكني أردت أن أوضح لك وللقراء أنني ما أقدمت علي ارسال رسالتي هذه إلا بعد أن ضاقت أمامي كل السبل إلا رحمة ربي سبحانه وتعالي, فهو الذي أنجاني وأنقذني مما كنت فيه من بلاء ومحنة ولم يكن يعلم بحالي أحد وحتي الذي يعرف حالي حينئذ كان لا يملك أي شيء تجاهي غير الدعاء
والآن أبحث عبر بابك عسي أن أجد من يقف بجانبي بأي صورة يستطيعها حتي استطيع أن أبدأ حياتي بشكل طبيعي لأنني الآن لا يوجد معي أي مال أبدأ به ولو مشروعا بسيطا وكذلك أريد أن استخرج كارنيه نقابة المحامين حتي أتمكن من العمل به حتي استطيع أن أقوم بتأجير شقة ولو كانت عبارة عن حجرة وصالة ساعتها استطيع أن أتقدم لأي أسرة بسيطة تقدر ظروفي ويوافقون علي الارتباط بإبنتهم لأنه سيكون لدي شقة وعمل وهناك أمر آخر أن كل عمل الآن يطلب من يجيد اللغة الانجليزية ويجيد الكمبيوتر وأنا لا أعرف شيئا عن الاثنين, فهل توجد مراكز تستطيع أن تتبرع بتعليمي هذين التخصصين المهمين جدا حتي استطيع أن أندمج مع المجتمع بشكل طبيعي, يبدو أنني أبدا من الصفر في كل الاتجاهات ولكني أري لكي أبدأ, أنني احتاج إلي من يدعمني فهل تري معي أنني استحق أن أجد من يقف بجانبي لكي استطيع أن أبدأ.
* سيدي.. تبدي القراءة المتعجلة لرسالتك, أنه لا توجد علاقة بين ما تعرضت له في طفولتك وماوصلت إليه الآن, وما بينهما من محطة وقفت فيها قليلا في مستنقع الجماعات المتطرفة, ولا أدري إذا كنت متعمدا هذا السرد التفصيلي لنفهم ما الذي دفع بك إلي هذا الطريق الملغوم؟ أم أنها الرغبة في البوح والفضفضة فقط؟! كشفت لنا يا عزيزي كيف يمكن للمجتمع أن يصنع إرهابيا منذ الطفولة, وجسدت كلماتك أزمة كبيرة في التعليم المصري, فما عانيت منه قديما, وصورة هذين المدرسين المجرمين مازالت تتكرر حتي الآن. فتربية مواطن صالح طبيعي تبدأ من المدرسة, من المدرس, وما عانيته وما أحسست به بعد رحيل الأب, وإرتماؤك في أحضان هذه الجماعة وما يماثلها, كان طبيعيا, فهم يجيدون الاحتواء والتوظيف, في ظل غياب من يمكنه إصلاح ما أفسده الاستاذ المربي الفاسد الإرهابي.
ولأنه لا وقت للبكاء علي اللبن المسكوب, وعلي الرغم من تقديري لوزارة الداخلية لأنها سمحت لك باستكمال دراستك ووفرت لك الظروف المناسبة, إلا أني أري أن مدة اعتقالك كانت طويلة, وإن كنت لا أعرف تحديدا مبرراتهم في الإبقاء عليك داخل السجن كل هذه السنوات؟.. هل كانوا يرون فيك خطرا علي الأمن العام؟ أم أبقوا عليك حتي تطمئن قلوبهم إلي أنك لن تعود إلي هذا الطريق مرة أخري؟!
الأهم من كل ذلك, أن من هم في مثل ظروفك يحتاجون إلي إعادة تأهيل واحتواء, حتي لا تخرج من معتقل ضيق إلي معتقل أكبر في الحياة, من حقك أن تعمل وتتزوج وتمارس حياتك الطبيعية, وعلي الرغم من ثقتي في أن أصدقاء البريد سيمدون أياديهم إليك, وكذلك لن يتواني نقيب المحامين الاستاذ سامح عاشور في تيسير إنضمامك إلي نقابة المحامين, إلا أني أتمني أن يبادر أحد المحامين الكبار بإتاحة الفرصة لك للعمل في مكتبه, أما عن دورات الكمبيوتر واللغة الانجليزية فأرجو أن تتفضل بزيارتي عصر الأحد بجريدة الأهرام.. فمن نجح في الهروب من المعتقل من حقه أن تفتح له الحياة كل أبوابها.. وإلي لقاء بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.